البحر المحيط، ج ٢، ص : ٥٧٧
لا بالنسب، ودل أيضا على أنه لا حظ للنسب مع العلم، وفضائل النفس، وأنها مقدّمة عليه لاختيار اللّه طالوت عليهم، لعلمه وقدرته، وإن كانوا أشرف منه نسبا.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الأخبار بقصة الخارجين من ديارهم، وهم عالم لا يحصون، فرارا من الموت، إما بالقتل إذ فرض عليهم القتال، وإما بالوباء، فأماتهم اللّه ثم أحياهم ليعلموا أنه لا مفر مما قدّره اللّه تعالى، وذلك لئلا نسلك ما سلكوه، فنحجم عن القتال، فأتت هذه الآية مثبتة لمن جاهد في سبيله، وذكر تعالى أنه ذو فضل على الناس، وذلك بإحيائهم والإحسان إليهم، ومع ذلك فأكثرهم لا يؤدّي شكر اللّه. ثم أمر بالقتال في سبيل اللّه، وبأن نعلم أنه سميع لأقوالنا، عليم بنياتنا، ثم ذكر أن من أقرض اللّه فاللّه يضاعفه حيث يحتاج إليه، ثم ذكر أن بيده القبض والبسط، وأن مرجع الكل إليه، ثم أخبر تعالى بقصة الملأ من بني إسرائيل، وذلك لنعتبر بها وتقتدي منها بما كان من أحوالهم حسنا، ونجتنب ما كان قبيحا. وهذه الحكمة في قصص الأولين علينا لنعتبر بها، وأنهم حين استولى عليهم العدو، فملك بلادهم وأسر أبناءهم، ولم يكن لهم ملك يسوسهم في أمر الحرب، إذ هي محتاجة إلى من يصدر عن أمره ويجتمع عليه، فسألوا نبيهم أن ينهض.
لهم ملكا برسم الجهاد في سبيل اللّه، فتوقع النبي منهم أنه لو فرض عليهم القتال نكصوا عنه، فأجابوه : بأنا قد وترنا، وأخرجنا من ديارنا، وأبنائنا، وهذا أصعب شيء على النفوس، وهو أن يخرج من مسكن ألفه، ويفرق بينه وبين أبنائه، ولهذا دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
«اللهم حبب لنا المدينة كحبنا مكة أو أكثر». وكثيرا ما بكى الشعراء المساكن والمعاهد، ألا ترى إلى قول بلال :
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وكان قتيبة بن سعيد المحدّث قد رزق من النصيب في الدنيا والجلالة، وحمل الناس العلم عنه، وكان ببغداد، فعبر مرة على مكان مولده ومنشئه صغيرا ببغلان، قيل : وهي ضيعة من أصغر الضياع، فتمنى أن لو كان مقيما بها، ويترك رئاسة بغداد، دار الخلافة، وذلك نزوع إلى الوطن، وذكر تعالى أنه لما فرض القتال عليهم : أعرضوا عن قبوله إلّا قليلا فإنه أخذ أمر اللّه بالقبول، ثم عرّض تعالى بالظالمين، وهم : الذين لم يقبلوا أمر اللّه بعد أن كانوا طلبوه، فهو يجازيهم على ظلمهم، ثم أخبر تعالى عن نبيهم أنه قال لهم عن اللّه إنه قد بعث طالوت ملكا عليهم، ولم يكن عندهم من أنفسهم ولا أشرفهم منصبا، إذ ليس من