البحر المحيط، ج ٢، ص : ٦٦٢
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لما شرط في الإنفاق أن لا يتبع منا ولا أذى، لم يكتف بذلك حتى جعل المن والأذى مبطلا للصدقة، ونهى عن الإبطال بهما ليقوي اجتناب المؤمن لهما، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان. ولما جرى ذكر المن والأذى مرتين، أعادهما هنا بالألف واللام، ودلت الآية على أن المن والأذى مبطلان للصدقة، ومعنى إبطالهما أنه لا ثواب فيها عند اللّه. والسّدي يعتقد أن السيئات لا تبطل الحسنات، فقال جمهور العلماء : الصدقة التي يعلم اللّه من صاحبها انه يمن ويؤذي لا تتقبل، وقيل : جعل اللّه للملك عليها إمارة، فهو لا يكتبها إذ نيته لم تكن لوجه اللّه.
ومعنى قوله : لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ أي : لا تأتوا بهذا العمل باطلا، لأنه إذا قصد به غير وجه اللّه فقد أتى به على جهة البطلان. وقال القاضي عبد الجبار : معلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدّمت، فلا يصح أن تبطل. فالمراد إذن إبطال أجرها، لأن الأجر لم يحصل بعد، وهو مستقبل، فيصير إبطاله بما يأتيه من المن والأذى. انتهى كلامه.
والمعنيان تحملهما الآية، ولتعظيم قبح المن أعاد اللّه ذلك في معارض الكلام، فأثنى على تاركه أولا وفضل المنع على عطية يتبعها المن ثانيا. وصرح بالنهي عنها ثالثا، وخص الصدقة بالنهي إذ كان المن فيها أعظم وأشنع. والظاهر أن قوله : بالمن، معناه على الفقير، وهو قول الجمهور.
وقال ابن عباس : بالمن على اللّه تعالى بسبب صدقته، والأذى للسائل. و : الكاف، قيل في موضع نعت لمصدر محذوف تقديره إبطالا، كابطال صدقة الذي ينفق، وقيل :
الكاف في موضع الحال، أي : لا تبطلوا مشبهين الذي ينفق ماله بالرياء.
وفي هذا المنافق قولان :
أحدهما : أنه المنافق، ولم يذكر الزمخشري غيره ينفق للسمعة وليقال إنه سخي كريم، هذه نيته، لا ينفق لرضا اللّه وطلب ثواب الآخرة، لأنه في الباطن لا يؤمن باللّه واليوم الآخر.
وقيل : المراد به الكافر المجاهر، وذلك بإنفاقه لقول الناس : ما أكرمه وأفضله! ولا يريد بإنفاقه إلّا الثناء عليه، ورجح مكي القول الأول بأنه أضاف إليه الرياء، وذلك من فعل المنافق الساتر لكفره، وأما الكافر فليس عنده رياء لأنه مناصب للدّين مجاهر بكفره.


الصفحة التالية
Icon