البحر المحيط، ج ٢، ص : ٩٢
منازلهم من الدنيا في الجاه عن ابن عباس، أو أسباب النجاة، أو المودّات. والظاهر دخول الجميع في الأسباب، لأنه لفظ عام. وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع، وهو أن يكون الكلام مسجوعا كقوله تعالى : وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ «١»، وهو في القرآن كثير، وهو في هذه الآية في موضعين. أحدهما : إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وهو محسن الحذف لضمير الموصول في قوله : اتبعوا، إذ لو جاء اتبعوهم، لفات هذا النوع من البديع. والموضع الثاني : وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، ومثال ذلك في الشعر قول أبي الطيب :
في تاجه قمر في ثوبه بشر في درعه أسد تدمي أظافره
وقولنا من قصيد عارضنا به بانت سعاد :
فالنحر مرمرة والنشر عنبرة والثغر جوهرة والريق معسول
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا، المعنى : أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا اللّه ويتبرأوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعا، مثل ما تبرأ المتبوعون أولا منهم. ولو : هنا للتمني. قيل : وليست التي لما كان سيقع لوقوع غيره، ولذلك جاء جوابها بالفاء في قوله : فَنَتَبَرَّأَ، كما جاء جواب ليت في قوله : يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ «٢»، وكما جاء في قول الشاعر :
فلو نبش المقابر عن كليب فتخبر بالذنائب أي زير
والصحيح أن لو هذه هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره، وأشربت معنى التمني، ولذلك جاء بعد هذا البيت جوابها، وهو قوله :
بيوم الشعثمين لقر عينا وكيف لقاء من تحت القبور
وأن مفتوحة بعد لو، كما فتحت بعد ليت في نحو قوله :
يا ليت أنا ضمنا سفينه حتى يعود البحر كينونه
وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء، وأنها إذا سقطت الفاء، انجزم الفعل هذا الموضع، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضا، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جوابا للو التي
(١) سورة البقرة : ٢/ ٢٦٧.
(٢) سورة النساء : ٤/ ٧٣.