البحر المحيط، ج ٣، ص : ١٢٥
وروى جابر حديثا مطولا فيه تكثير الخبز واللحم على سبيل خرق العادة لفاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فسألها : من أين لك هذا؟ فقالت : هو من عند اللّه. فحمد اللّه، وقال :
الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل.
قيل : وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة. العموم الذي يراد به الخصوص في قوله :
على العالمين، والإختصاص في قوله : آدم، ونوحا، وآل إبراهيم، وآل عمران. وإطلاق اسم الفرع على الأصل. والمسبب على السبب، في قوله : ذرية، فيمن قال المراد الأباء، والإبهام في قوله : ما في بطني، لما تعذر عليها الإطلاع على ما في بطنها أتت بلفظ : ما، الذي يصدق على الذكر والأنثى، والتأكيد في قوله : إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها : وضعتها أنثى، والاعتراض في قوله : وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، في قراءة من سكن التاء أو كسرها. وتلوين الخطاب ومعدوله في قوله : واللّه أعلم بما وضعت، في قراءة من كسر التاء، خرج من خطاب الغيبة في قولها : فلما وضعتها، إلى خطاب المواجهة في قوله : بما وضعت. والتكرار في : وأنى، وفي : زكريا، وزكريا، وفي :
من عند اللّه، إن اللّه. والتجنيس المغاير في : فتقبلها ربها بقبول، وأنبتها نباتا، وفي : رزقا ويرزق. والإشارة، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي، في قوله : هو من عند اللّه، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلّا اللّه. وفي قوله : رزقا، أتى به منكّرا مشيرا إلى أنه ليس من جنس واحد، بل من أجناس كثيرة، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة. والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها.
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أصل : هنالك، أن يكون إشارة للمكان، وقد يستعمل للزمان وقيل بهما في هذه الآية، أي في ذلك المكان دعا زكريا، أو : في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق العظيم لمريم، وأنها ممن اصطفاها اللّه، ارتاح إلى طلب الولد واحتاج إليه لكبر سنه، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب، كما قصه تعالى في سورة مريم، ولم يمنعه من طلب كون امرأته عاقرا، إذ رأى من حال مريم أمرا خارجا عن العادة، فلا يبعد أن يرزقه اللّه ولدا مع كون امرأته كانت عاقرا، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعد ما أيست من الولد.
وانتصاب : هنالك، بقوله : دعا، ووقع في تفسير السجاوندي : أن هناك في المكان، وهنا لك في الزمان، وهو وهم، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا. وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان، كما أن أصل : عند، أن يكون للمكان، ثم يتجوز بها للزمان، كما تقول : آتيك عند طلوع الشمس.


الصفحة التالية
Icon