البحر المحيط، ج ٣، ص : ٢٩٦
جواب الشرط الأول محذوف تقديره : فاتبعوه. والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول. وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله : فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ الآية. والهمزة في أَكَفَرْتُمْ للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم. والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم، فإن كانوا الكفار فالتقدير : بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم كالذرّ، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان. وإن كانوا قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه، وكفرهم به بعده، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم. وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم الإيمان حقيقة وفي قوله : أَكَفَرْتُمْ. قالوا : تلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات، لأن قوله : فأما الذين اسودت غيبة، وأ كفرتم مواجهة بما كنتم، الباء سببية وما مصدرية.
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ انظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودّت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب، وهنا جعلهم مستقرّين في الرحمة، فالرّحمة ظرف لهم وهي شاملتهم. ولما أخبر تعالى أنّهم مستقرّون في رحمة اللّه بيّن أنّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال، وأشار بلفظ الرّحمة إلى سابق عنايته بهم، وأن العبد وإن كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة اللّه تعالى. وقال ابن عباس : المراد بالرحمة هنا الجنة، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعارا بأنّ جانب الرحمة أغلب. وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه، بل قال : فَذُوقُوا الْعَذابَ «١» ولما ذكر العذاب علّله بفعلهم، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة. وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر : فأما الذين اسوادت، وأما الذين ابياضت بألف. وأصل افعلّ هذا افعلل يدل، على ذلك اسوددت واحمررت، وأن يكون للون أو عيب حسي، كأسود، وأعوج، واعور. وأن لا يكون من مضعف كاحم، ولا معتل لام كألمى، وأن لا يكون للمطاوعة. وندر نحو : انقضّ الحائط، وابهار الليل، وإشعار الرجل بفرق شعره، وشذا رعوى، لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعا لرعوته بمعنى كففته. وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها، ولزومه إذا
(١) سورة آل عمران : ٣/ ١٠٦.