البحر المحيط، ج ٣، ص : ٣٠١
والمعنى : أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها. وحكم عليهم بأنهم خير أمة، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي : سبقهم إلى الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وبدارهم إلى نصرته، ونقلهم عنه علم الشريعة، وافتتاحهم البلاد. وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل. وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها، لأنّهم سبب في إيجادها، إذ هم الذين سنوها، وأوضحوا طريقها
«من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا».
ومعنى أخرجت : أظهرت وأبرزت، ومخرجها هو اللّه تعالى، وحذف للعلم به. وقال ابن عباس : أخرجت من مكة إلى المدينة، وهي جملة في موضع الصفة لأمة، أي خير أمة مخرجة، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة، فتكون في موضع نصب أي مخرجة. وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة، ولم يراع لفظ الخطاب. وهما طريقان للعرب، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب، ثم جاء بعده خبره اسما، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفا، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول : أنا رجل آمر بالمعروف، وأنت رجل تأمر بالمعروف.
ومنه بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ «١» وأنك امرؤ فيك جاهلية :
وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية كأنك منها قاعد في جوالق
وتارة يراعى حال ذلك الاسم، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة.
فتقول : أنا رجل يأمر بالمعروف، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف. ومنه : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربيا فصيحا. والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده. وظاهر قوله : للناس أنه متعلق بأخرجت. وقيل : متعلق بخير. ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ، بل من موضع آخر. وقيل :
بتأمرون، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف. فلما قدم المفعول جر باللام كقوله : إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ «٢» أي تعبرون الرؤيا، وهذا فيه بعد. تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من اللّه قاله : الربيع. أو مخرج الشرط في الخيرية، روي هذا المعنى عن : عمر، ومجاهد، والزجاج. فقيل : هو مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم
(١) سورة النمل : ٢٧/ ٤٧.
(٢) سورة يوسف : ١٢/ ٤٣.