البحر المحيط، ج ٣، ص : ٣٠٤
غير مدبر عنه. وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين، لأنّ حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه، أو النصر المستمد من اللّه، وكلاهما ليس لهم. وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور، لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب. ولذلك ورد في القرآن مستعملا دون لفظ الظهور لقوله تعالى : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «١» وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ «٢» ثم لا ينصرون : هذا استئناف إخبار أنّهم لا ينصرون أبدا. ولم يشرك في الجزاء فيجزم، لأنه ليس مرتبا على الشرط، بل التولية مترتبة على المقاتلة. والنصر منفى عنهم أبدا سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، إذ منع النصر سببه الكفر. فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على لن يضروكم إلا أذى. وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط. قال :
وثم للتراخي، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط. والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام. قال تعالى : وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «٣» فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط. وثمّ هنا ليست للمهلة في الزمان، وإنما هي للتراخي في الإخبار. فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسرّ للنفس. ثم أخبر بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقا. وقال الزمخشري : التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الإدبار. (فإن قلت) : ما موقع الجملتين، أعني منهم : المؤمنون ولن يضروكم؟ (قلت) : هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاء من غير عاطف.
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ تقدم شرح هذه الجملة، وهي وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام. قال الحسن : جاء الإسلام والمجوس تجبي اليهود الجزية، وما كانت لهم غيرة ومنعه إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض، فأزالها بالإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض.

_
(١) سورة القمر : ٥٤/ ٤٥.
(٢) سورة الأنفال : ٨/ ١٦.
(٣) سورة محمد : ٤٧/ ٣٨.


الصفحة التالية
Icon