البحر المحيط، ج ٣، ص : ٣١
لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده، فلو لا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى، ولجعل كتابه كله محكما.
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلّا أصحاب العقول، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء، ووضع الكلام مواضعه، ونبه بذلك على أن ما اشتبه من القرآن، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزا لإدراك : الواجب، والجائز، والمستحيل، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارئ تعالى، ولا إلى ما شرع من أحكامه، ما لا يجوز في العقل.
وقال ابن عطية : أي، ما يقول هذا ويؤمن به، ويقف حيث وقف، ويدع اتباع المتشابه إلّا ذو لبّ.
وقال الزمخشري : مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل.
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا ويحتمل أن يكون هذا من جملة المقول أي :
يقولون ربنا، وكأنهم لما رأوا انقسام الناس إلى زائغ، ومتذكر مؤمن، دعوا اللّه تعالى بلفظ الرب أن لا يزيغ قلوبهم بعد هدايتهم، فيلحقوا بمن في قلبه زيغ، ويحتمل أن يكون تعالى علمهم هذا الدعاء، والتقدير : قولوا ربنا.
ومعنى الإزاغة هنا الضلالة. وفي نسبة ذلك إليه تعالى رد على المعتزلة في قولهم :
إن اللّه لا يضل، إذ لو لم تكن الإزاغة من قبله تعالى لما جاز أن يدعى في رفع ما لا يجوز عليه فعله.
وقال الزجاج : المعنى : لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ بها قلوبنا، وهذا القول فيه التحفظ من خلق اللّه الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد.
وقال ابن كيسان : سألوا أن لا يزيغوا، فيزيغ اللّه قلوبهم، نحو : فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «١» أي : ثبتنا على هدايتك، وأن لا نزيغ، فنستحق أن تزيغ قلوبنا. وهذه نزعة اعتزالية، كما قال الجبائي : لا تمنعها الألطاف التي بها يستمر القلب على صفة الإيمان.
ولما منعهم الألطاف لاستحقاقهم منع ذلك، جاز أن يقال : أزاغهم، ويدل عليه : فلما زاغوا. وقال الجبائي أيضا : لا تزغنا عن جنتك وثوابك.

_
(١) سورة الصف : ٦١/ ٥.


الصفحة التالية
Icon