البحر المحيط، ج ٣، ص : ٥٨٥
من قوله : حرمت عليكم. وكأنه قيل : كتب اللّه عليكم تحريم ذلك كتابا. ومن جعل ذلك متعلقا بقوله : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «١» كما ذهب إليه عبيدة السلماني، فقد أبعد وما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب الظروف والمجرورات مستدلا بهذه الآية، إذ تقدير ذلك عنده : عليكم كتاب اللّه أي : الزموا كتاب اللّه. لا يتم دليله لاحتماله أن يكون مصدرا مؤكدا كما ذكرناه. ويؤكد هذا التأويل قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميفع اليماني : كتب اللّه عليكم، جعله فعلا ماضيا رافعا ما بعده، أي : كتب اللّه عليكم تحريم ذلك. وروي عن ابن السميفع أيضا أنه قرأ :
كتب اللّه عليكم جمعا ورفعا أي : هذه كتب اللّه عليكم أي : فرائضه ولازماته.
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ لما نص على المحرمات في النكاح أخبر تعالى أنه أحل ما سوى من ذكر، وظاهر ذلك العموم. وبهذا الظاهر استدلت الخوارج ومن وافقهم من الشيعة على جواز نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، والجمع بينهما. وقد أطال الاستدلال في ذلك أبو جعفر الطاوسي أحد علماء الشيعة الاثني عشرية في كتابه في التفسير، وملخص ما قال : أنه لا يعارض القرآن بخبر آحاد. وهو ما
روي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال :«لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها»
بل إذا ورد حديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عرض على القرآن، فإن وافقه قبل، وإلا ردّ. وما ذهبوا إليه ليس بصحيح، لأن الحديث لم يعارض القرآن، غاية ما فيه أنه تخصيص عموم، ومعظم العمومات التي جاءت في القرآن لا بد فيها من التخصيصات، وليس الحديث خبر آحاد بل هو مستفيض، روي عن جماعة من الصحابة رواه : عليّ، وابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وعائشة. حتى ذكر بعض العلماء أنه متواتر موجب للعلم والعمل. وذكر ابن عطية : إجماع الأمة على تحريم الجمع، وكأنه لم يعتد بخلاف من ذكر لشذوذه، ولا يعدّ هذا التخصيص نسخا للعموم خلافا لبعضهم. وقد خصص بعضهم هذا العموم بالأقارب من غير ذوات المحارم كأنه قيل : وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من أقاربكم، فهي حلال لكم تزويجهن، وإلى هذا ذهب عطاء والسدي، وخصه قتادة بالإماء :
أي : وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء. وأبعد عبيدة والسدي في ردّ ذلك إلى مثنى وثلاث ورباع والمعنى : وأحلّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح. وقال
(١) سورة النساء : ٤/ ٣.