البحر المحيط، ج ٣، ص : ٥٨٧
المضمر الذي نصب كتاب اللّه : أي كتب اللّه عليكم تحريم ذلك، وأحل لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني : كتب اللّه عليكم، وأحل لكم. ثم قال : ومن قرأ وَأُحِلَّ لَكُمْ على البناء للمفعول، فقد عطفه على : حرّمت عليكم انتهى كلامه. ففرق في العطف بين القراءتين، وما اختاره من التفرقة غير مختار. لأن انتصاب كتاب اللّه عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله : حرمت، فالعامل فيه وهو كتب، إنما هو تأكيد لقوله : حرمت، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأسيس للحكم، إنما التأسيس حاصل بقوله : حرمت، وهذه جيء بها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة المؤسسة للحكم، إنما يناسب أن يعطف على جملة مؤسسة مثلها، لا سيما والجملتان متقابلتان : إذ إحداهما للتحريم، والأخرى للتحليل، فناسب أن يعطف هذه على هذه. وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ : وأحل مبنيا للمفعول، فكذلك يجوز فيه مبنيا للفاعل، ومفعول أحلّ هو :
ما وراء ذلكم.
قال ابن عطية : والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرّمات، فهو وراء أولئك بهذا الوجه. وقال الفراء : ما وراء ذلكم أي : ما سوى ذلكم. وقال الزجاج : ما دون ذلكم، أي : ما بعد هذه الأشياء التي حرمت. وهذه التفاسير بعضها يقرب من بعض.
وموضع أن تبتغوا نصب على أنه بدل اشتمال من ما وراء ذلكم، ويشمل الابتغاء بالمال النكاح والشراء. وقيل : الابتغاء بالمال هو على وجه النكاح. وقال الزمخشري : أن تبتغوا مفعول له، بمعنى : بين لكم ما يحل مما يحرم، إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل اللّه لكم قياما في حال كونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم، فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين انتهى كلامه. وانظر إلى جعجعة هذه الألفاظ وكثرتها، وتحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه، وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد، ودس مذهب الاعتزال في غضون هذه الألفاظ الطويلة دسا خفيا إذ فسر قوله : وأحل لكم بمعنى بين لكم ما يحل. وجعل قوله : أن تبتغوا على حذف مضافين : أي إرادة أن يكون ابتغاؤكم، أي : إرادة كون ابتغائكم بأموالكم. وفسر الأموال بعد بالمهور، وما يخرج في المناكح، فتضمن تفسيره : أنه تعالى بين لكم ما يحل لإرادته كون ابتغائكم بالمهور، فاختصت إرادته بالحلال الذي هو النكاح


الصفحة التالية
Icon