البحر المحيط، ج ٤، ص : ١٢٨
عنهم العلم نفيا كليا بحرف الاستغراق ثم قيل : وما علموه علم يقين، وإحاطة لم يكن إلا تهكما انتهى. والظاهر قول الجمهور : إن الضمير يعود على عيسى بجعل الضمائر كلها كشيء واحد، فلا تختلف. والمعنى صحيح بليغ، وانتصاب يقينا على أنه مصدر في موضع الحال من فاعل قتلوه أي : متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم : إنا قتلنا المسيح قاله : السدي. أو نعت لمصدر محذوف أي : قتلا يقينا جوزه الزمخشري. وقال الحسن : وما قتلوه حقا انتهى. فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفية كقولك :
وما قتلوه حقا أي : حق انتفاء قتله حقا. وما حكي عن ابن الأنباري أنه في الكلام تقديما وتأخيرا، وإن يقينا منصوب برفعه اللّه إليه، والمعنى : بل رفعه اللّه إليه يقينا، فلعله لا يصح عنه. وقد نص الخليل على أن ذلك خطأ، لأنه لا يعمل ما بعد بل في ما قبلها.
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ هذا إبطال لما ادعوه من قتله وصلبه،
وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم في حديث المعراج.
وهو هنالك مقيم حتى ينزله اللّه إلى الأرض لقتل الدجال، وليملأها عدلا كما ملئت جورا، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما تموت البشر. وقال قتادة : رفع اللّه عيسى إليه فكساه الريش وألبسه النور، وقطع عنه المطعم والمشرب، فصار مع الملائكة، فهو معهم حول العرش، فصار إنسيّا ملكيا سماويا أرضيا.
والضمير في إليه عائد إلى اللّه تعالى على حذف التقدير إلى سمائه، وقد جاء وَرافِعُكَ إِلَيَّ «١». وقيل : إلى حيث لا حكم فيه إلا له. ولا يوجه الدعاء إلا نحوه، وهو راجع إلى الأول. وقال أبو عبد اللّه الرازي : أعلم اللّه تعالى عقيب ذكره أنه وصل إلى عيسى أنواع من البلايا، أنه رفعه إليه فدل أنّ رفعه إليه أعظم في إيصال الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية انتهى. وفيه نحو من كلام المتفلسفة.
وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً قال أبو عبد اللّه الرازي : المراد من المعزة كمال القدرة، ومن الحكمة كمال العلم، فنبه بهذا على أنّ رفع عيسى عليه السّلام من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمتعذر على البشر، لكن لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وحكمتي

(١) سورة آل عمران : ٣/ ٥٥.


الصفحة التالية
Icon