البحر المحيط، ج ٨، ص : ٢٢٥
فرأى هدهدا، فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وعظم منه، وذهب معه لينظر، فما رجع إلا بعد العصر.
وقيل : الضمير في فمكث لسليمان. وقيل : يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد، وفي الكلام حذف، فإن كان غير بعيد زمانا، فالتقدير : فجاء سليمان، فسأله : ما غيبك؟ فقال : أحطت وإن كان مكانا، فالتقدير : فجاء فوقف مكانا قريبا من سليمان، فسأله : ما غيبك؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه، وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له، فقال : أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، وفي هذا جسارة من لديه علم، لم يكن عند غيره، وتبجحه بذلك، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو. ومعنى الإحاطة هنا : أنه علم علما ليس عند نبي اللّه سليمان.
قال الزمخشري : ألهم اللّه الهدهد، فكافح سليمان بهذا الكلام، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجملة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به سليمان، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته، لا يخفى منه معلوم، قالوا :
وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أعلم منه. انتهى.
ولما أبهم في قوله : بِما لَمْ تُحِطْ، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاما، وهو قوله :
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه، وأنه له علم بخبر مستيقن له. وقرأ الجمهور : من سبأ، مصروفا، هذا وفي : لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ «١»، وابن كثير، وأبو عمرو : بفتح الهمزة، غير مصروف فيهما، وقنبل من طريق النبال : بإسكانها فيهما. فمن صرفه جعله اسما للحي أو الموضع أو للأب، كما
في حديث فروة بن مسيك وغيره، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد، تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة. والستة : حمير، وكندة، والأزد، وأشعر، وخثعم، وبجيلة والأربعة : لخم، وجذام، وعاملة، وغسان. وكان سبأ رجلا من قحطان اسمه عبد شمس.
وقيل : عامر، وسمي سبأ لأنه أول من سبا، ومن منعه الصرف جعله اسما للقبيلة أو البقعة، وأنشدوا على الصرف :

(١) سورة سبأ : ٣٤/ ١٥.


الصفحة التالية
Icon