البحر المحيط، ج ٨، ص : ٤٣٨
بشر، اقرأوا إن شئتم : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ».
وقال ابن مسعود :
في التوراة مكتوب على اللّه للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره. وفَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ : نكرة في سياق النفي، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرا للّه تعالى لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم، لا يعلمه إلا هو، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها. وقال الحسن : أخفوا اليوم أعمالا في الدنيا، فأخفى اللّه لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح. وقال الزمخشري : فحسم أطماع المتمنين. انتهى، وهذه نزغة اعتزالية.
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً،
قال ابن عباس وعطاء : نزلت في علي والوليد بن عقبة. تلاحيا، فقال له الوليد : أنا أذلق منك لسانا، وأحدّ سنانا، وأرد للكتيبة.
فقال له علي : اسكت، فإنك فاسق.
قال الزمخشري : فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما. وقال الزجاج، والنحاس : نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط.
فعلى هذا تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدينة، وإنما قتل بطريق مكة، منصرف بدر. والجمع في لا يَسْتَوُونَ، والتقسيم بعده، حمل على معنى من. وقيل :
لا يَسْتَوُونَ لاثنين، وهو المؤمن والفاسق، والتثنية جمع. وقال الزجاج : ونزول الآية في علي والوليد، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد. والجمهور : جَنَّاتُ بالجمع. وقيل : سميت بذلك لما روي عن ابن عباس، قال : يأوي إليها أرواح الشهداء.
وقيل : هي عن يمين العرش. وقرأ الجمهور : نُزُلًا بضم الزاي وأبو حيوة : بإسكانها.
والنزل : عطاء النازل، ثم صار عاما فيما يعد للضيف. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا : أي بالكفر، فَمَأْواهُمُ النَّارُ. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين، كقوله : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «١». انتهى وهذا فيه بعد.
وإنما يذهب إلى مثل فَبَشِّرْهُمْ إذا كان مصرحا به فيقول : قام مقام التبشير العذاب، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع. أما أن تضمر شيئا لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار، فليس بجيد.
والْعَذابِ الْأَدْنى، قال أبيّ، وابن عباس، والضحاك، وابن زيد : مصائب الدنيا في الأنفس والأموال. وقال ابن مسعود، والحسن بن علي : هو القتل بالسيف، نحو يوم

(١) سورة التوبة : ٩/ ٣٤.


الصفحة التالية
Icon