البحر المحيط، ج ٨، ص : ٥٥٧
وفي قولهم : بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، إشعار لهم بما عبدوه، وإن لم يصرح به.
لكن الإضراب ببل يدل عليه وذلك لأن المعبود إذا لم يكن راضيا بعبادة عابده مريدا لها، لم يكن ذلك العابد عابدا له حقيقة، فلذلك قالوا : بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، لأن أفعالهم القبيحة من وسوسة الشياطين وإغوائهم ومراداتهم عابدون لهم حقيقة، فلذلك قالوا : بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، إذ الشياطين راضون تلك الأفعال. وقيل : صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن، وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت، فيعبدون بعبادتها. وقال ابن عطية : لم تنف الملائكة عبادة البشر إياها، وإنما أقرت أنها لم يكن لها في ذلك مشاركة. وعبادة البشر الجن هي فيما يقرون بطاعتهم إياهم، وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم، فهذا نوع من العبادة. وقد يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت، في سورة الأنعام وغيرها. انتهى. وإذا هم قد عبدوا الجن، فما وجه قولهم : أكثرهم مؤمنون، ولم يقولوا جميعهم، وقد أخبروا أنهم كانوا يعبدون الجن؟ والجواب أنهم لم يدعوا الإحاطة، إذ قد يكون في الكفار من لم يطلع الملائكة عليهم، أو أنهم حلموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من عمل القلب، فلم يذكروا الاطلاع على جميع أعمال قلوبهم، لأن ذلك للّه تعالى. ومعنى مُؤْمِنُونَ : مصدقون أنهم معبودوهم، وقيل :
مصدقون أنهم بنات اللّه، وأنهم ملائكة، وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «١». وأما من قال بأن الأكثر بمعنى الجميع، فلا يرد عليه شيء، لكنه ليس موضوع اللغة.
فَالْيَوْمَ : هو يوم القيامة، والخطاب في بَعْضُكُمْ، قيل : للملائكة، لأنهم المخاطبون في قوله : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ، ويكون ذلك تبكيتا للكفار حين بين لهم أن من عبدوه لا ينفع ولا يضر، ويؤيده : وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «٢»، ولأن بعده : وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا، ولو كان الخطاب للكفار، لكان التركيب فذوقوا. وقيل : الخطاب للكفار، لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم، ويكون قوله : ويقول، تأكيدا لبيان حالهم في الظل. وقيل :
هو خطاب من اللّه لمن عبد ومن عبد. وقوله : نَفْعاً، قيل : بالشفاعة، وَلا ضَرًّا بالتعذيب. وقيل هنا : الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ، وفي السجدة : الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ «٣» كل منهما، أي من العذاب ومن النار، لأنهم هنا لم يكونوا ملتبسين بالعذاب،
(٢) سورة الأنبياء : ٢١/ ٢٨.
(٣) سورة السجدة : ٣٢/ ٢٠.