البحر المحيط، ج ٨، ص : ٥٦٢
نسبه إلى ذلك فهو مفتر كاذب. والظاهر أن ما للنفي، كما شرحنا. وقيل : ما استفهام، وهو استفهام لا يراد به حقيقته، بل يؤول معناه إلى النفي، التقدير : أي شيء بصاحبكم من الجنون، أي ليس به شيء من ذلك. ولما نفى تعالى عنه الجنة أثبت أنه نَذِيرٌ، بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ : أي هو متقدم في الزمان على العذاب الذي توعدوا به، وبين يدي يشعر بقرب العذاب.
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ الآية : في التبري من طلب الدنيا، وطلب الأجر على النور الذي أتى به، والتوكل على اللّه فيه. واحتملت ما أن تكون موصولة مبتدأ، والعائد من الصلة محذوف تقديره : سألتكموه، وفَهُوَ لَكُمْ الخبر. ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، واحتملت أن تكون شرطية مفعولة بسألتكم، وفهو لكم جملة هي جواب الشرط. وقوله : ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ على معنيين : أحدهما : نفي مسألة للأجر، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئا فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا، ولكنه أراد البت لتعليقه الأخذ بما لم يمكن، ويؤيده إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. والثاني : أن يريد بالأجر ما في قوله : قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «١»، وفي قوله : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «٢»، لأن اتخاذ السبيل إلى اللّه نصيبهم ما فيه نفعهم، وكذلك المودة في القرابة، لأن القرابة قد انتظمت وإياهم، قاله الزمخشري، وفيه بعض زيادة. قال ابن عباس : الأجر : المودة في القربى.
وقال قتادة : فَهُوَ لَكُمْ، أي ثمرته وثوابه، لأني سألتكم صلة الرحم. وقال مقاتل : تركته لكم. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ : مطلع حافظ، يعلم أني لا أطلب أجرا على نصحكم ودعائكم إليه إلا منه، ولا أطمع منكم في شيء.
والقذف : الرمي بدفع واعتماد، ويستعار لمعنى الإلقاء لقوله : فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ «٣»، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «٤». قال قتادة : يَقْذِفُ بِالْحَقِّ : يبين الحجة ويظهرها. وقال ابن القشيري : يبين الحجة بحيث لا اعتراض عليها، لأنه عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وأنا مستمسك بما يقذف إليّ من الحق. وأصل القذف : الرمي بالسهم، أو الحصا والكلام. وقال ابن عباس : يقذف الباطل بالحق، والظاهر أن بالحق هو المفعول، فالحق هو المقذوف محذوفا، أي يقذف، أي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه من الوحي والشرع

(١) سورة الفرقان : ٢٥/ ٥٧.
(٢) سورة الشورى : ٤٢/ ٢٣.
(٣) سورة طه : ٢٠/ ٣٩.
(٤) سورة الأحزاب : ٣٣/ ٢٦.


الصفحة التالية
Icon