البحر المحيط، ج ٩، ص : ٣٣٩
المجرم ويعفو عن بعض. فأما من لا جرم له، كالأنبياء والأطفال والمجانين، فهو كما إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره، فللعوض الموفى والمصلحة وعن علي : هذه أرجى آية للمؤمنين.
وقال الحسن : مِنْ مُصِيبَةٍ : أي حد من حدود اللّه، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه، فإنما هي بكسب أيديكم. وَيَعْفُوا اللّه عَنْ كَثِيرٍ، فيستره على العباد حتى لا يحد عليه. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ : أنتم في قبضة القدرة. وقيل :
ليست المصائب من الأسقام والقحط والغرق وغير ذلك بعقوبات على الذنوب لقوله :
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «١»، ولاشتراك الصالح والطالح فيهما، بل أكثر ما يبتلي به الصالحون المتقون. وفي الحديث :«خص بالبلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل».
ولأن الدنيا دار التكليف، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار الجزاء، وليس الأمر كذلك.
وهذا القول يؤخره نصوص القرآن، كقوله تعالى : فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً «٢» الآية.
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ، فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ، وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ.
لما ذكر تعالى من دلائل وحدانيته أنواعا، ذكر بعدها العالم الأكبر، وهو السموات والأرض ثم العالم الأصغر، وهو الحيوان. ثم أتبعه بذكر المعاد، أتبعه بذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف يغوص فيه الثقيل، والسفن تشخص بالأجسام الثقيلة الكثيفة، ومع ذلك جعل تعالى للماء
(٢) سورة العنكبوت : ٢٩/ ٤٠.