مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٤٩٠
المسألة الثانية : احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : القول بالقياس يفضي إلى المنازعة، والمنازعة محرمة، فهذه الآية توجب أن يكون العمل بالقياس حراماً، بيان الملازمة المشاهدة، فإنا نرى أن الدنيا صارت مملوءة من الاختلافات بسبب القياسات، وبيان أن المنازعة محرمة. قوله : وَلا تَنازَعُوا وأيضاً القائلون بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس تمسكوا بهذه الآية. وقالوا : قوله تعالى : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صريح في وجوب طاعة اللَّه ورسوله في كل ما نص عليه، ثم أتبعه بأن قال : وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا ومعلوم أن من تمسك بالقياس المخصص بالنص فقد ترك طاعة اللَّه وطاعة رسوله. وتمسك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل، وكل ذلك حرام، ومثبتو القياس أجابوا عن الأول بأنه ليس كل قياس يوجب المنازعة.
ثم قال تعالى : وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ والمقصود أن كمال أمر الجهاد مبني على الصبر، فأمرهم بالصبر. كما قال في آية أخرى : اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا [آل عمران : ٢٠٠] وبين أنه تعالى مع الصابرين، ولا شبهة أن المراد بهذه المعية النصرة والمعونة.
ثم قال : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال المفسرون : المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير، فلما وردوا الجحفة بعث الخفاف الكناني وكان صديقاً لأبي جهل إليه بهدايا مع ابن له، فلما أتاه قال : إن أبي ينعمك صباحاً ويقول لك إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت، فقال أبو جهل : قل لأبيك جزاك اللَّه والرحم خيراً، إن كنا نقاتل اللَّه كما يزعم محمد فو اللَّه ما لنا باللَّه من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس، فو اللَّه إن بنا على الناس لقوة، واللَّه ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا فيها القيان، فإن بدراً موسم من مواسم العرب، / وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بهذه الواقعة. قال المفسرون : فوردوا بدراً وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
واعلم أنه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء : الأول : البطر قال الزجاج : البطر الطغيان في النعمة. والتحقيق أن النعم إذا كثرت من اللَّه على العبد فإن صرفها إلى مرضاته وعرف أنها من اللَّه تعالى فذاك هو الشكر. وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر. والثاني : قوله : وَرِئاءَ النَّاسِ والرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أن باطنه يكون قبيحاً، والفرق بينه وبين النفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرئاء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية.
روي أنه صلى اللّه عليه وسلّم لما رآهم في موقف بدر قال :«اللهم أن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها لمعارضة دينك ومحاربة رسولك»
والثالث : قوله : وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فعل مضارع وعطف الفعل على الاسم غير حسن. وذكر الواحدي فيه ثلاثة أوجه : الأول : أن يكون قوله :
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بمنزلة صادين. والثاني : أن يكون قوله : بَطَراً وَرِئاءَ بمنزلة يبطرون ويراؤن، وأقول : إن شيئاً من هذه الوجوه لا يشفي الغليل، لأنه تارة يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل، ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر، وعن الثالث بالفعل. وأقول : إن الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ذكر أن الاسم يدل على التمكين والاستمرار والفعل على التجدد والحدوث، قال ومثاله في الاسم قوله تعالى : وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف : ١٨] وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة، ومثال الفعل قوله تعالى : قُلْ مَنْ