مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٤٩٥
واعلم أن التحقيق أن الإنسان جوهر واحد وهو الفعل وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع والعاصي، وهذه الأعضاء آلات له وأدوات له في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان.
المسألة الرابعة : قوله : بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ يقتضي أن ذلك العقاب كالأمر المتولد من الفعل الذي صدر عنه، وقد عرفت أن العقاب إنما يتولد من العقائد الباطلة التي يكتبها الإنسان، ومن الملكات الراسخة التي يكتسبها الإنسان، فكان هذا الكلام مطابقاً للمعقول.
ثم قال تعالى : وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في محل أن وجهان : أحدهما : النصب بنزع الخافض يعني بأن اللَّه : والثاني : أنك إن جعلت قوله : ذلِكَ في موضع رفع جعلت أن في موضع رفع أيضاً، بمعنى وذلك أن اللَّه قال الكسائي ولو كسرت ألف أن على الابتداء كان صواباً، وعلى هذا التقدير : يكون هذا كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : لو كان تعالى يخلق الكفر في الكافر، ثم يعذبه عليه لكان ظالماً، وأيضاً قوله تعالى : ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يدل على أنه تعالى إنما لم يكن ظالماً بهذا العذاب، لأنه قدم ما استوجب عليه هذا العذاب، وذلك يدل على أنه لو لم يصدر منه ذلك التقديم لكان اللَّه تعالى ظالماً في هذا العذاب، فلو كان الموجد للكفر والمعصية هو اللَّه لا العبد لوجب كون اللَّه ظالماً، وأيضاً تدل هذه الآية على كونه قادراً على الظلم، إذ لو لم يصح منه لما كان في التمدح بنفيه فائدة.
واعلم أن هذه المسألة قد سبق ذكرها على الاستقصاء في سورة آل عمران، فلا فائدة في الإعادة. واللَّه أعلم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٢ إلى ٥٤]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
[في قوله تعالى كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما بين ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلًا وآجلًا كما شرحناه أتبعه بأن بين أن هذه طريقته وسنته في الكل. فقال : كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والمعنى : عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم. فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإغراق وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال :
فلان يدأب في كذا، أي يداوم عليه ويواظب ويتعب نفسه، ثم سميت العادة دأباً لأن الإنسان مداوم على عادته ومواظب عليها.
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ والغرض منه التنبيه على أن لهم عذاباً مدخراً سوى ما نزل بهم


الصفحة التالية
Icon