مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٤٩٨
وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه. قال أهل العلم : آثار نقض العهد إذا ظهرت، فإما أن تظهر ظهوراً محتملًا أو ظهوراً مقطوعاً به، فإن كان الأول وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك لأن قريظة عاهدوا النبي صَلَّى اللّه عليه وسلّم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول اللَّه فحصل لرسول اللَّه خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب، أما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد كما فعل رسول اللَّه بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم من ذمة النبي صَلَّى اللّه عليه وسلّم وصل إليهم جيش رسول اللَّه بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٩]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى :[بيان حال من فاته بدر وغيره ] اعلم أنه تعالى لما بين ما يفعل الرسول في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه وذكر أيضاً ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد، بين أيضاً حال من فاته في يوم بدر وغيره، لئلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية الرسول عليه الصلاة والسلام مبلغاً عظيماً فقال : لا تحسبن الذين كفروا سبقوا والمعنى : أنهم لما سبقوا فقد فاتوك ولم تقدر على إنزال ما يستحقونه بهم، ثم هاهنا قولان :
الأول : أن المراد ولا تحسبن أنهم انفلتوا منك، فإن اللَّه يظفرك بعيرهم. والثاني : لا تحسبن أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل أنهم قد تخلصوا من عقاب اللَّه ومن عذاب الآخرة إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي أنهم بهذا السبق لا يعجزون اللَّه من الانتقام منهم والمقصود تسلية الرسول فيمن فاته ولم يتمكن من التشفي والانتقام منه.
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «لا يحسبن» بالياء المنقطة من تحت، وفي تصحيحه ثلاثة أوجه : الأول : قال الزجاج : ولا يحسبن الذين كفروا أن يسبقونا، لأنها في حرف ابن مسعود أنهم سبقونا فإذا كان الأمر كذلك فهي بمنزلة قولك حسبت أن أقوم، وحسبت أقوم وحذف أن كثير في القرآن قال تعالى :
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر : ٦٤] والمعنى : أن أعبد. الثاني : أن نضمر فاعلًا للحسبان ونجعل الذين كفروا المفعول الأول، والتقدير : ولا يحسبن أحد الذين كفروا. الثالث : قال أبو علي : ويجوز أيضاً أن يضمر المفعول الأول، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا أو إياهم سبقوا، وأما أكثر القراء فقرءوا ولا تحسبن بالتاء المنقطة من فوق على مخاطبة النبي صَلَّى اللّه عليه وسلّم والذين كفروا المفعول الأول وسبقوا المفعول الثاني وموضعه نصب والمعنى : ولا تحسبن الذين كفروا سابقين.
المسألة الثالثة : أكثر القراء على كسر (إن) في قوله : إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ وهو الوجه لأنه ابتداء كلام غير متصل بالأول كقوله : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا وتم الكلام ثم قال : ساءَ ما يَحْكُمُونَ فكما أن قوله : ساءَ ما يَحْكُمُونَ منقطع من الجملة التي قبلها، كذلك قوله : إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ وقرأ ابن عامر إِنَّهُمْ بفتح الألف، وجعله متعلقاً بالجملة الأولى، وفيه وجهان : الأول : التقدير لا تحسبنهم سبقوا، لأنهم لا يفوتون فهم يجزون على كفرهم. الثاني : قال أبو عبيد : يجعل (لا) صلة، والتقدير : لا تحسبن أنهم يعجزون.


الصفحة التالية
Icon