مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٥٠٨
أوجب تذكير الفعل كقولك جاء الرجال وحضر قبيلتك وحضر القاضي امرأة. فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى. وقال صاحب «الكشاف» : قرئ للنبي صَلَّى اللّه عليه وو سلّم على التعريف وأُسارى ويُثْخِنَ بالتشديد.
المسألة الثانية :
روي أن النبي صَلَّى اللّه عليه وسلّم أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال : قومك وأهلك استبقهم لعل اللَّه أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك، فقام عمر وقال : كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم. فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن اللَّه أغناك عن الفداء. فمكن علياً من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان ينسب له فنضرب أعناقهم. فقال عليه الصلاة والسلام :«إن اللَّه ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن اللَّه ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم : ٣٦] ومثل عيسى في قوله : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة : ١١٨] ومثلك يا عمر مثل نوح وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح : ٢٦] ومثل موسى حيث قال :
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [يونس : ٨٨] ومال رسول اللَّه صَلَّى اللّه عليه وسلّم إلى قول أبي بكر.
روي أنه قال لعمر يا أبا حفص وذلك أول ما كناه، تأمرني أن أقتل العباس، فجعل عمر يقول : ويل لعمر ثكلته أمه، وروي أن عبد اللَّه بن رواحة أشار بأن تضرم عليهم نار كثيرة الحطب فقال له العباس قطعت رحمك.
وروي / أنه صَلَّى اللّه عليه وسلّم قال :«لا تخرجوا أحداً منهم إلا بفداء أو بضرب العنق»
فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول اللَّه صَلَّى اللّه عليه وسلّم واشتد خوفي. ثم قال من بعد :«إلا سهيل بن بيضاء»
وعن عبيدة السلماني قال : قال رسول اللَّه صَلَّى اللّه عليه وسلّم للقوم :«إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم» فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد.
وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية، وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهماً أو ستة دنانير. وروي أنهم أخذوا الفداء نزلت هذه الآية فدخل عمر على رسول اللَّه صَلَّى اللّه عليه وسلّم، فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول اللَّه أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت، فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة منه- ولو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ.
هذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية.
المسألة الثالثة : تمسك الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه :
الوجه الأول : أن قوله تعالى : ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى صريح في أن هذا المعنى منهي عنه، وممنوع من قبل اللَّه تعالى. ثم إن هذا المعنى قد حصل، ويدل عليه وجهان : الأول : قوله تعالى بعد هذه الآية :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى [الأنفال : ٧٠] الثاني : أن الرواية التي ذكرناها قد دلت على أنه عليه الصلاة والسلام ما قتل أولئك الكفار، بل أسرهم، فكان الذنب لازماً من هذا الوجه.
الوجه الثاني : أنه تعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام وجميع قومه يوم بدر بقتل الكفار وهو قوله :
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال : ١٢] وظاهر الأمر للوجوب، فلما لم يقتلوا بل أسروا كان الأسر معصية.
الوجه الثالث : أن النبي صَلَّى اللّه عليه وسلّم حكم بأخذ الفداء، وكان أخذ الفداء معصية، ويدل عليه وجهان : الأول : قوله


الصفحة التالية
Icon