مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٥١٤
المسألة الثانية : احتج هشام بن الحكم على قوله : إنه تعالى لا يعلم الشيء إلا عند حدوثه بهذه الآية، لأن قوله : إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً فعل كذا وكذا شرط وجزاء، والشرط هو حصول هذا العلم، والشرط والجزاء لا يصح وجودهما إلا في المستقبل، وذلك يوجب حدوث علم اللَّه تعالى.
والجواب : أن ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره هشام، إلا أنه لما دل الدليل على أن علم اللَّه يمتنع أن يكون محدثاً وجب أن يقال : ذكر العلم وأراد به المعلوم من حيث إنه يدل حصول العلم على حصول المعلوم.
أما قوله : يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» : قرأ الحسن مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ على البناء للفاعل.
المسألة الثانية : للمفسرين في هذا الخير أقوال :
القول الأول : المراد : الخلف مما أخذ منهم في الدنيا. قال القاضي : لأنه تعالى عطف عليه أمر الآخرة بقوله : وَيَغْفِرْ لَكُمْ فما تقدم يجب أن يكون المراد منه منافع الدنيا.
ولقائل أن يقول : إن قوله : وَيَغْفِرْ لَكُمْ المراد منه إزالة العقاب، وعلى هذا التقدير : لم يبعد أن يكون المراد من هذا الخير المذكور أيضاً الثواب والتفضل في الآخرة.
والقول الثاني : المراد من هذا الخير ثواب الآخرة، فإن قوله : وَيَغْفِرْ لَكُمْ المراد منه في الآخرة، فالخير الذي تقدمه يجب أيضاً أن يكون في الدنيا.
والقول الثالث : أنه محمول على الكل.
فإن قيل : إذا حملتم الخير على خيرات الدنيا، فهل تقولون إن كل من أخلص من الأسارى قد آتاه اللَّه خيراً مما أخذ منه؟
قلنا : هكذا يجب أن يكون بحكم الآية، إلا أنا لا نعلم من المخلص بقلبه. حتى يتوجه علينا فيه السؤال، ولا نعلم أيضاً من الذي آتاه اللَّه علماً، وقد علمنا أن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر.
ثم قال : وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو تأكيد لما مضى ذكره من قوله : وَيَغْفِرْ لَكُمْ والمعنى : كيف لا يفي بوعده المغفرة وأنه غفور رحيم؟
أما قوله : وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه الخيانة وجوه : الأول : أن المراد منه الخيانة في الدين وهو الكفر، يعني إن كفروا بك فقد خانوا اللَّه من قبل. الثاني : أن المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء. الثالث : روي أنه عليه السلام لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا تعودوا إلى محاربته وإلى معاهدة المشركين، وهذا هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر، فقال تعالى : وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ أي نكث هذا العهد فقد خانوا اللَّه من قبل، والمراد أنهم كانوا يقولون لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس : ٢٢] ولَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف : ١٨٩] ثم إذا وصلوا إلى النعمة وتخلصوا من البلية نكثوا العهد ونقضوا الميثاق، ولا يمنع دخول الكل فيه، وإن كان الأظهر هو هذا الأخير.


الصفحة التالية
Icon