مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٥١٩
آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
واعلم أن هذا ليس بتكرار وذلك لأنه تعالى ذكرهم أولًا ليبين حكمهم وهو ولاية بعضهم بعضاً، ثم إنه تعالى ذكرهم هاهنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم، وبيانه من وجهين : الأول : أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم وذلك يدل على الشرف التعظيم. والثاني : وهو أنه تعالى أثنى عليهم هاهنا من ثلاثة أوجه :
أولها : قوله : أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فقوله : أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يفيد الحصر وقوله : حَقًّا يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، والأمر في الحقيقة كذلك، لأن من لم يكن محقاً في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن ولم يبذل النفس والمال ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين. وثانيها : قوله : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وتنكير لفظ المغفرة يدل على الكمال كما أن التنكير في قوله : وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة : ٩٦] يدل على كمال تلك الحياة، والمعنى : لهم مغفرة تامة كاملة عن جميع الذنوب والتبعات. وثالثها : قوله : وَرِزْقٌ كَرِيمٌ والمراد منه الثواب الرفيع الشريف. والحاصل : أنه تعالى شرح حالهم في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فقد وصفهم بقوله :
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وأما في الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب، وإما جلب الثواب، أما دفع العقاب فهو المراد بقوله : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله : وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهذه السعادات العالية إنما حصلت لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية، فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال، وذلك تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات.
القسم الرابع : من مؤمني زمان محمد صَلَّى اللّه عليه وسلّم هم الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة إلا أنهم بعد ذلك هاجروا إليه، وهو المراد من قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في المراد من قوله تعالى : مِنْ بَعْدُ نقل الواحدي عن ابن عباس : بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية، وقيل بعد نزول هذه الآية، وقيل : بعد يوم بدر، والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى، وهؤلاء هم التابعون بإحسان كما قال : وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة : ١٠٠].
المسألة الثانية : الأصح أن الهجرة انقطعت بفتح مكة لأن عنده صارت مكة بلد الإسلام وقال الحسن :
الهجرة غير منقطعة أبداً، وأما
قوله عليه السلام :«لا هجرة بعد الفتح»
فالمراد الهجرة المخصوصة، فإنها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام. أما لو اتفق في بعض الأزمان كون المؤمنين في بلد وفي عددهم قلة، ويحصل للكفار بسبب كونهم معهم شوكة وإن هاجر المسلمون من تلك البلدة وانتقلوا إلى بلدة أخرى ضعفت شوكة الكفار، فههنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن، لأنه قد حصل فيهم مثل العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة.
المسألة الثالثة : قوله : فَأُولئِكَ مِنْكُمْ يدل على أن مرتبة هؤلاء دون مرتبة المهاجرين السابقين لأنه ألحق هؤلاء بهم وجعلهم منهم في معرض التشريف، ولولا كون القسم الأول أشرف وإلا لما صح هذا المعنى.
فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة التي ذكرها اللَّه تعالى في هذه الآية.