مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٠٠
أخرى حديدية سابقة عليها، ولا بد من انتهائها إلى آلة حديدية هي أول هذه الآلات، فتأمل أنها كيف تكونت على الأشكال المخصوصة، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر الأربعة، وهي الأرض والماء والهواء والنار حتى يمكن طبخ الخبز من ذلك الدقيق. فهذا هو النظر فيما تقدم على حصول هذه اللقمة. وأما النظر فيما بعد حصولها : فتأمل في تركيب بدن الحيوان، وهو أنه تعالى كيف خلق الأبدان حتى يمكنها الانتفاع بتلك اللقمة، وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار، ولا يمكنك أن تعرف القليل من هذه الأشياء إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب بالكلية، فظهر بما ذكرنا أن الانتفاع باللقمة الواحدة لا يمكن معرفته إلا بمعرفة جملة الأمور، والعقول قاصرة عن إدراك ذرة من هذه المباحث، فظهر بهذا البرهان القاهر صحة قوله تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ثم إنه تعالى قال :
إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ قيل : يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها. وقيل : ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع، والمراد من الإنسان هاهنا : الجنس، يعني أن عادة هذا الجنس هو هذا الذي ذكرناه، وهاهنا بحثان :
البحث الأول : أن الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها، وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة، وأيضا أن نعم اللّه كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي.
البحث الثاني : أنه تعالى قال في هذا الموضع : إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وقال في سورة النحل : إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل : ١٨] ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول : إذا حصلت النعم / الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها، فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما كونك ظلوما كفارا، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفورا رحيما، والمقصود كأنه يقول : إن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت كفارا فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء، ونسأل اللّه حسن العاقبة والرحمة.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ إلى ٣٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة أنه لا معبود إلا اللّه سبحانه وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى ألبتة حكى عن إبراهيم عليه السلام مبالغته في إنكار عبادة الأوثان.
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من اللّه أشياء : أحدها : قوله : رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً والمراد : مكة آمنا ذا أمن.
فإن قيل : أي فرق بين قوله : اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [البقرة : ١٢٦] وبين قوله : اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً.
قلنا : سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فلا يخافون، وفي الثاني : أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها، وهي الخوف، ويحصل لها ضد تلك الصفة وهو الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمنا، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة. وثانيها : قوله : وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon