مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٠٨
والجواب من وجوه : الأول : المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب اللّه غافلا، كقوله : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام : ١٤]. وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [القصص : ٨٨] وكقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. والثاني :/ أن المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوما لكل أحد لا جرم كان عدم الانتقام محالا. والثالث : أن المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. الرابع : أن يكون هذا الكلام وإن كان خطابا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الظاهر، إلا أنه يكون في الحقيقة خطابا مع الأمة، وعن سفيان بن عيينة :
أنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، ثم بين تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بصفات.
الصفة الأولى : أنه تشخص فيه الأبصار. يقال : شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا يطرفها، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة وسقوط القوة.
والصفة الثانية : قوله : مُهْطِعِينَ وفي تفسير الإهطاع أقوال أربعة :
القول الأول : قال أبو عبيدة هو الإسراع. يقال : أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع وعلى هذا الوجه، فالمعنى : أن الغالب من حال من يبقى بصره شاخصا من شدة الخوف أن يبقى واقفا، فبين اللّه تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد، فإنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مهطعين، أي مسرعين نحو ذلك البلاء.
القول الثاني : في الإهطاع قال أحمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع.
والقول الثالث : المهطع الساكت.
والقول الرابع : قال الليث : يقال للرجل إذا قر وذل أهطع.
الصفة الثالثة : قوله : مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع، فقوله : مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعي رؤوسهم والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه، فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رؤوسهم.
الصفة الرابعة : قوله : لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ والمراد من هذه الصفة دوام ذلك الشخوص، فقوله :
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ لا يفيد كون هذا الشخوص دائما وقوله : لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يفيد دوام هذا الشخوص، وذلك يدل على دوام تلك الحيرة والدهشة في قلوبهم.
الصفة الخامسة : قوله : وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ثم جعل وصفا فقيل :
قلب فلان هواء إذا كان خاليا لا قوة فيه، والمراد بيان أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب ومن كل سرور، لكثرة ما فيه من الحزن، إذا عرفت هذه الصفات الخمسة فقد اختلفوا / في وقت حصولها فقيل : إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقيب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب، وقيل : إنها تحصل عند ما يتميز فريق عن فريق، والسعداء يذهبون إلى الجنة، والأشقياء إلى النار. وقيل : بل يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور، والأول أولى للدليل الذي ذكرناه، واللّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon