مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١١٣
إذا عرفت هذا فنقول : في قوله : مُقَرَّنِينَ ثلاثة أوجه : أحدها : قال الكلبي : مقرنين كل كافر مع شيطان في غل، وقال عطاء : هو معنى قوله : وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير : ٧٠] أي قرنت فيقرن اللّه تعالى نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين، وأقول حظ البحث العقلي منه أن الإنسان إذا فارق الدنيا، فإما أن يكون قد راض نفسه وهذبها ودعاها إلى معرفة اللّه تعالى وطاعته ومحبته، أو ما فعل ذلك، بل تركها متوغلة في اللذات الجسدانية مقبلة على الأحوال الوهمية والخيالة، فإن كان الأول فتلك النفس تفارق مع تلك الجهة بالحضرة الإلهية، والسعادة / بالعناية الصمدانية، وإن كان الثاني فتلك النفس تفارق مع الأسف والحزن والبلاء الشديد، بسبب الميل إلى عالم الجسم، وهذا هو المراد بقوله : وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وشيطان النفس الكافرة هي الملكات الباطلة، والحوادث الفاسدة، وهو المراد من قول عطاء : إن كل كافر مع شيطانه يكون مقرونا في الأصفاد.
والقول الثاني : في تفسير قوله : مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هو قرن بعض الكفار ببعض، والمراد أن تلك النفوس الشقية والأرواح المكدرة الظلمانية، لكونها متجانسة متشاكلة ينضم بعضها إلى بعض، وتنادي ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى، فانحدار كل واحدة منها إلى الأخرى في تلك الظلمات، والخسارات هي المراد بقوله : مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ.
والقول الثالث : قال زيد بن أرقم : قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال، وحظ العقل من ذلك أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء، فإذا كانت تلك الملكات ظلمانية كدرة، صارت في المثال كأن أيديها وأرجلها قرنت وغلت في رقابها. وأما قوله : فِي الْأَصْفادِ ففيه وجهان : أحدها : أن يكون ذلك متعلقا بمقرنين، والمعنى : يقربون بالأصفاد. والثاني : أن لا يكون متعلقا به، والمعنى : أنهم مقرنون مقيدون، وحظ العقل معلوم مما سلفت الإشارة إليه.
الصفة الثانية : قوله تعالى : سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ السرابيل جمع سربال وهو القميص، والقطران فيه ثلاث لغات : قطران وقطران وقطرن، بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء وبفتح القاف وكسر الطاء، وهو شيء يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب فيحرق الجرب بحرارته وحدته، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف، ومن شأنه أن يتسارع فيه اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلي كالسرابيل، وهي القمص فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب، لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح، وأيضا التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين، وأقول حظ العقل من هذا أن جوهر الروح جوهر مشرق لامع من عالم القدس وغيبة الجلال، وهذا البدن جار مجرى السربال والقميص له، وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم، فإنما يحصل بسبب هذا البدن، فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس، لأن الشهوة والحرص والغضب إنما تتسارع إلى جوهر الروح بسببه، وكونه للكثافة والكدورة والظلمة هو الذي يخفي لمعان الروح وضوءه وهو سبب لحصول النتن والعفونة، فتشبه هذا الجسد بسرابيل من القطران والقطر، وقرأ / بعضهم من قطر آن والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره. قال أبو بكر بن الأنباري : وتلك النار لا تبطل ذلك القطران ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم.


الصفحة التالية
Icon