مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ٩٨
بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية. فإن قيل : ما معنى وسخر لكم الفلك مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد؟
قلنا : أما على قولنا إن فعل العبد خلق اللّه تعالى فلا سؤال، وأما على مذهب المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال : لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ولولا خلقه / للحديد وسائر الآلات ولولا تعريفه العباد كيف يتخذوه ولولا أنه تعالى خلق الماء على صفة السيلان التي باعتبارها يصح جري السفينة، ولولا خلقه تعالى الرياح وخلق الحركات القوية فيها ولولا أنه وسع الأنهار وجعل فيها من العمق ما يجوز جري السفن فيها لما وقع الانتفاع بالسفن فصار لأجل أنه تعالى هو الخالق لهذه الأحوال، وهو المدبر لهذه الأمور والمسخر لها حسنت إضافة السفن إليه.
البحث الثاني : أنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره لأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيما لشأنه، ومنهم من حمله على ظاهر قوله : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل : ٤٠] وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه.
البحث الثالث : الفلك من الجمادات فتسخيرها مجاز، والمعنى أنه لما كان يجري على وجه الماء كما يشتهيه الملاح صار كأنه حيوان مسخر له.
الحجة الخامسة : قوله تعالى : وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ واعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات، وأيضا ماء البحر لا يصلح للشرب، والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار.
الحجة السادسة والسابعة : قوله : وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ.
واعلم أن الانتفاع بالشمس والقمر عظيم، وقد ذكره اللّه تعالى في آيات منها قوله : وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح : ١٦] ومنها قوله : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن : ٥] ومنها قوله :
وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان : ٦١] ومنها قوله : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس : ٥] وقوله : دائِبَيْنِ
معنى الدؤب في اللغة مرور الشيء في العمل على عادة مطردة يقال دأب يدأب دأبا ودؤبا وقد ذكرنا هذا في قوله : قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً [يوسف : ٤٧] قال المفسرون : قوله :
دائِبَيْنِ معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية وقد ذكرنا منافع الشمس والقمر بالاستقصاء في أول هذا الكتاب.
الحجة الثامنة والتاسعة : قوله : وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.
واعلم أن منافعهما مذكورة في القرآن كقوله تعالى : وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ :
١٠، ١١] وقوله : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس : ٦٧] قال ولمتكلمون :
تسخير الليل والنهار مجاز لأنهما عرضان، والأعراض لا تسخر.
والحجة العاشرة : قوله : وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ثم إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين


الصفحة التالية
Icon