مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٩٢
وَأَقْرَبَ رُحْماً أي يكون هذا البدل أقرب عطفا ورحمة بأبويه بأن يكون أبر بهما وأشفق عليهما والرحم الرحمة والعطف. روي أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبيا هدى اللّه على يديه أمة عظيمة.
بقي من مباحث هذه الآية موضعان في القراءة. الأول : قرأ نافع وأبو عمرو يبدلهما بفتح الباء وتشديد الدال وكذلك في التحريم : أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً وفي القلم : عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا والباقون ساكنة الباء خفيفة الدال وهما لغتان أبدل يبدل وبدل يبدل. الثاني : قراءة ابن عامر في إحدى الروايتين عن أبي عمرو رحما بضم الحاء والباقون بسكونها وهما لغتان مثل نكر ونكر وشغل وشغل.
وأما المسألة الثالثة : وهي إقامة الجدار فقد أجاب العالم عنها بأن الداعي له إليها أنه كان تحت ذلك الجدار كنز وكان ذلك اليتيمين في تلك المدينة وكان أبوهما صالحا ولما كان ذلك الجدار مشرفا على السقوط ولو سقط لضاع ذلك الكنز فأراد اللّه إبقاء ذلك الكنز على ذينك اليتيمين / رعاية لحقهما ورعاية لحق صلاح أبيهما فأمرني بإقامة ذلك الجدار رعاية لهذه المصالح، وفي الآية فوائد. الفائدة الأولى : أنه تعالى سمى ذلك الموضع قرية حيث قال : إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ وسماه أيضا مدينة حيث قال : وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ. الفائدة الثانية : اختلفوا في هذا الكنز فقيل : إنه كان مالا وهذا هو الصحيح لوجهين. الأول : أن المفهوم من لفظ الكنز هو المال. والثاني : أن قوله : وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما يدل على أن ذلك الكنز هو المال وقيل إنه كان علما بدليل أنه قال : وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً والرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال إذ كنز المال لا يليق بالصلاح بدليل قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
[التوبة : ٣٤] وقيل : كان لوحا من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه. الفائدة الثالثة : قوله : وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وعن جعفر بن محمد كان بين الغلامين وبين الأب الصالح سبعة آباء
وعن الحسن بن علي أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ اللّه مال الغلامين؟ قال : بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه؟ قال : قد أنبأنا اللّه أنكم قوم خصمون.
وذكروا أيضا أن ذلك الأب الصالح كان الناس يضعون الودائع إليه فيردها إليهم بالسلامة، فإن قيل :
اليتيمان هل عرف أحد منهما حصول الكنز تحت ذلك الجدار أو ما عرف أحد منهما؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار. وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز والانتفاع به؟
الجواب : لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالما به ثم [إن ] ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط ولما قرر العالم هذه الجوابات قال : رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعني إنما فعلت هذه الفعال لغرض أن تظهر رحمة اللّه تعالى لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما قررناه ثم قال : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يعني ما فعلت ما رأيت من هذه الأحوال عن أمري واجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر اللّه ووحيه لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا يجوز إلا بالوحي والنص القاطع بقي في الآية سؤال، وهو أنه قال : فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وقال : فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وقال : فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما كيف اختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاث وهي


الصفحة التالية
Icon