مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ١٠٦
لما نهى الكافر عما هو عليه، أمر المؤمن بما هو عليه وخاطب النبي عليه السلام ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء، وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء كما
قال عليه الصلاة والسلام :«إن اللّه أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين»
وقد ذكرنا معناه، وقوله : مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يحتمل وجهين الأول : أن يكون قوله : مِنَ اللَّهِ متعلقا بقوله : يَأْتِيَ والثاني : أن يكون المراد لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي اللّه لا يرد وغيره عاجز عن رده فلا بد من وقوعه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي يتفرقون. ثم أشار إلى التفرق بقوله : مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال : مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً ولم يقل ومن آمن وذلك لأن العمل الصالح به يكمل الإيمان فذكره تحريضا للمكلف عليه، وأما الكفر إذا جاء فلا زنة للعمل معه، ووجه آخر : وهو أن الكفر قسمان : أحدهما : فعل وهو الإشراك والقول به، والثاني : ترك وهو عدم النظر والإيمان فالعاقل البالغ إذا كان في مدينة الرسول ولم يأت بالإيمان فهو كافر سواء قال بالشرك أو لم يقل، لكن الإيمان لا بد معه من العمل الصالح، فإن الاعتقاد الحق عمل القلب، وقول لا إله إلا اللّه عمل اللسان وشيء منه لا بد منه.
المسألة الثانية : قال : فَعَلَيْهِ فوحد الكناية وقال : فَلِأَنْفُسِهِمْ جمعها إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، أما الغضب فمسبوق بالرحمة، لازم لمن أساء.
المسألة الثالثة : قال : فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولم يبين وقال في المؤمن فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ تحقيقا لكمال الرحمة فإنه عند الخير بين وفصل بشارة، وعند غيره أشار إليه إشارة. ثم قال تعالى :
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٥]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥)
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير وعمله الصالح، وهو الجزاء الذي يجازيه به اللّه / والملك إذا كان كبيرا كريما، ووعد عبدا من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه ثم أكده بقوله :
مِنْ فَضْلِهِ يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء، ثم إني لا أجازيك من العدل وإنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء، ثم قال تعالى : إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أوعدهم بوعيد ولم يفصله لما بينا وإن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل، فإن عدم المحبة من اللّه غاية العذاب، وأفهم ذلك ممن يكون له معشوق فإنه إذا أخبر العاشق بأنه وعدك بالدراهم والدنانير كيف تكون مسرته، وإذا قيل له إنه قال إني أحب فلانا كيف يكون سروره.
وفيه لطيفة وهي أن اللّه عند ما أسند الكفر والإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال : مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم : ٤٤] وعند ما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال تعالى : إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لأن قوله مَنْ كَفَرَ في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد ونهيه عن فعله بالتهديد وقوله : مَنْ عَمِلَ صالِحاً لتحريض المؤمن فالنهي كالإيعاد والتحريض للتقرير والإيعاد مقدم عند الحكيم الرحيم، وأما عند ما ذكر الجزاء بدأ بالإحسان إظهارا للكرم والرحمة، فإن قال قائل هذا إنما يصح أن لو كان الذكر في كل موضع كذلك وليس كذلك فإن اللّه كثير من المواضع قدم إيمان المؤمن على كفر الكافر وقدم


الصفحة التالية
Icon