مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ٢٠٣
فإن العلم صفة كاشفة يظهر بها كل ما في نفس الأمر فعلم اللّه في الأزل أن العالم سيوجد، فإذا وجد علمه موجودا بذلك العلم، وإذا عدم يعلمه معدوما بذلك، مثاله : أن المرآة المصقولة فيها الصفاء / فيظهر فيها صورة زيد إن قابلها، ثم إذا قابلها عمرو يظهر فيها صورته، والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها، إنما التغير في الخارجات فكذلك هاهنا قوله : إِلَّا لِنَعْلَمَ أي ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر والإيمان من المؤمن وكان قبله فيه أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو.
وقوله : وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إشارة إلى أنه ليس بملجئ وإنما هو آية، وعلامة خلقها اللّه لتبيين ما هو في علمه السابق، وقوله : وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يحقق ذلك أي اللّه تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع، فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز. ثم قال تعالى :
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٢ إلى ٢٣]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
لما بين اللّه تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بمن مضى عاد إلى خطابهم وقال لرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم من دون اللّه ليكشفوا عنكم الضر على سبيل التهكم ثم بين أنهم لا يملكون شيئا بقوله : لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ.
واعلم أن المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة أحدها : قول من يقول اللّه تعالى خلق السماء والسماويات وجعل الأرض والأرضيات في حكمهم، ونحن من جملة الأرضيات فنعبد الكواكب والملائكة التي في السماء فهم آلهتنا واللّه إلههم، فقال اللّه تعالى في إبطال قولهم : إنهم لا يملكون في السموات شيئا كما اعترفتم، قال ولا في الأرض على خلاف ما زعمتم وثانيها : قول من يقول السموات من اللّه على سبيل الاستبداد والأرضيات منه ولكن بواسطة الكواكب فإن اللّه خلق العناصر والتركيبات التي فيها بالاتصالات والحركات والطوالع فجعلوا لغير اللّه معه شركا في الأرض والأولون جعلوا الأرض لغيره والسماء له، فقال في إبطال قولهم : وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي الأرض كالسماء للّه لا لغيره، ولا لغيره فيها نصيب وثالثها : قول من قال : التركيبات والحوادث كلها من / اللّه تعالى لكن فوض ذلك إلى الكواكب، وفعل المأذون ينسب إلى الآذن ويسلب عن المأذون فيه، مثاله إذا قال ملك لمملوكه اضرب فلانا فضربه يقال في العرف الملك ضربه ويصح عرفا قول القائل ما ضرب فلان فلانا، وإنما الملك أمر بضربه فضرب، فهؤلاء جعلوا السماويات معينات للّه فقال تعالى في إبطال قولهم : وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ما فوض إلى شيء شيئا، بل هو على كل شيء حفيظ ورقيب ورابعها : قول من قال إنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا فقال تعالى في إبطال قولهم وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فلا فائدة لعبادتكم غير اللّه فإن اللّه لا يأذن في الشفاعة لمن يعبد غيره فبطلبكم الشفاعة تفوتون على أنفسكم الشفاعة وقوله : حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي أزيل الفزع عنهم، يقال قرد البعير إذا أخذ منه القراد


الصفحة التالية
Icon