إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى أن جبريل «١» جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال : يا أبا القاسم، إن اللّه يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهنّ فيقول أنا الملك «٢» فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعجبا مما قال ثم قرأ تصديقا له وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ... الآية وإنما ضحك أفصح العرب صلى اللّه عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام اللّه تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإنّ أكثره وعليته «٣» تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما، وما أتى الزالون «٤» إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره، لما خفى عليهم أنّ العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه، إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول، قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة «٥» والوجوه الرثة، لأنّ من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا منه من دبير «٦». والمراد بالأرض : الأرضون السبع، يشهد لذلك شاهدان : قوله جَمِيعاً وقوله

__
(١). قوله «أن جبريل جاء إلى رسول اللّه» قيل : الصواب أنه حبر من أحبار اليهود لا جبريل. ويدل عليه ما في البخاري ومسلم والترمذي، كذا بهامش. ويؤيده أن «يا أبا القاسم» عادة اليهود في ندائه صلى اللّه عليه وسلم. (ع)
(٢). متفق عليه من حديث ابن مسعود. «تنبيه» وقع عنده أن جبريل وهو تصحيف. والذي في الصحيح «جاء حبر من اليهود» وفي رواية «أن يهوديا» وفي رواية «أن رجلا من أهل الكتاب».
(٣). قوله «و عليته» أى معظمه. (ع)
(٤). قوله «و ما أتى الزالون» أى أجيبوا (ع)
(٥). قوله «بالتأويلات الغثة» في الصحاح «الغث» نبت يختبز حبه ويؤكل في الجوع، وتكون خبزته غليظة شبيهة يخبز الملة. (ع)
(٦). قوله «قبيلا منه من دبير» في الصحاح «القبيل» : ما تقبل به المرأة من غزلها حين تفتله. وفيه «الدبير» :
ما تدبره به المرأة من غزلها حين تفتله. ومنه قيل : فلان ما يعرف قبيلا من دبير. (ع)


الصفحة التالية
Icon