المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٦٦
المزكى من حسنت أفعاله وزكاه اللّه عز وجل، والضمير في يُزَكُّونَ عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه اللّه تعالى، وغير هذين الصنفين علم أن اللّه تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية، وقرأت طائفة «و لا تظلمون» بالتاء على الخطاب، «و الفتيل» : هو ما فتل، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم :«الفتيل» : الخيط الذي في شق نواة التمرة، وقال ابن عباس وأبو مالك والسدي :
هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن اللّه لا يظلمه، ولا شيء دونه في الصغر، فكيف بما فوقه، ونصبه على مفعول ثان ب يُظْلَمُونَ.
وقوله تعالى : انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ الآية، يبين أن تزكيتهم أنفسهم كانت بالباطل والكذب، ويقوي أن التزكية كانت بقولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة : ١٨] إذ الافتراء في هذه المقالة أمكن، وكَيْفَ يصح أن يكون في موضع نصب ب يَفْتَرُونَ، ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله : يَفْتَرُونَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً خبر في مضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب، وأن يكتفى لهم بهذا الكذب إثما ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك وإِثْماً نصب على التمييز.
وقوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ الآية، ظاهرها يعم اليهود والنصارى، ولكن أجمع المتأولون على أن المراد بها طائفة من اليهود، والقصص يبين ذلك، واختلف في بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، فقال عكرمة وغيره : هما في هذا الموضع صنمان كانا لقريش، وذلك أن كعب بن الأشرف وجماعة معه وردوا مكة محرضين على قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت لهم قريش : إنكم أهل الكتاب، ومحمد صاحب كتاب، ونحن لا نأمنكم أن تكونوا معه، إلا أن تسجدوا لهذين الصنمين اللذين لنا، ففعلوا، ففي ذلك نزلت هذه الآية، وقال ابن عباس : بِالْجِبْتِ هنا : حيي بن أخطب وَالطَّاغُوتِ : كعب بن الأشرف. فالمراد على هذه الآية القوم الذين كانوا معهما من بني إسرائيل لإيمانهم بهما واتباعهم لهما، وقال ابن عباس : بِالْجِبْتِ. الأصنام، وَالطَّاغُوتِ. القوم المترجمون عن الأصنام، الذين يضلون الناس بتعليمهم إياهم عبادة الأصنام، وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال : بِالْجِبْتِ السحر، وَالطَّاغُوتِ : الشيطان، وقاله مجاهد والشعبي، وقال زيد بن أسلم : بِالْجِبْتِ : الساحر، وَالطَّاغُوتِ :
الشيطان، وقال سعيد بن جبير ورفيع : بِالْجِبْتِ : الساحر، والطَّاغُوتِ : الكاهن، وقال قتادة : بِالْجِبْتِ :
الشيطان، والطاغوت : الكاهن، وقال سعيد بن جبير أيضا : الجبت : الكاهن، والطاغوت : الشيطان، وقال ابن سيرين : بِالْجِبْتِ : الكاهن، وَالطَّاغُوتِ : الساحر، وقال مجاهد في كتاب الطبري : بِالْجِبْتِ : كعب ابن الأشرف، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان.
قال ابن عطية : فمجموع هذا يقتضي أن بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ هو كل ما عبد وأطيع من دون اللّه تعالى، وكذلك قال مالك رحمه اللّه : الطاغوت كل ما عبد من دون اللّه تعالى، وذكر بعض الناس أن الجبت : هو من لغة الحبشة، وقال قطرب : بِالْجِبْتِ أصله الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير عنده، وأما الطَّاغُوتِ فهو من طغى، أصله طغووت وزنه فعلوت، وتاؤه زائدة، قلب فرد فلعوت، أصله طوغوت، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، وقوله تعالى : وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية سببها، أن قريشا قالت لكعب بن الأشرف