المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٣١٧
وقوله : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «و يثبّت» بشد الباء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «و يثبت» بتخفيفها.
وتخبط الناس في معنى هذه الألفاظ، والذي يتخلص به مشكلها : أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها اللّه تعالى في الأزل وعلمها بحال ما لا يصح فيها محو ولا تبديل، وهي التي ثبتت في أُمُّ الْكِتابِ وسبق بها القضاء، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم، وأما الأشياء التي قد أخبر اللّه تعالى أنه يبدل فيها وينقل كعفو الذنوب بعد تقريرها، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها - ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا اللّه ما محا وثبت ما ثبت. وجاءت العبارة مستقلة بمجيء الحوادث، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان فينتظر البشر ما يمحو أو ما يثبت وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم.
وقالت فرقة - منها الحسن - هي في آجال بني آدم، وذلك أن اللّه تعالى في ليلة القدر، وقيل :- في ليلة نصف شعبان - يكتب آجال الموتى فيمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الموتى. وقال قيس بن عباد : العاشر من رجب هو يوم يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ.
قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص في الآجال أو غيرها لا معنى له، وإنما يحسن من الأقوال هنا ما كان عاما في جميع الأشياء، فمن ذلك أن يكون معنى الآية أن اللّه تعالى يغير الأمور على أحوالها، أعني ما من شأنه أن يغير - على ما قدمناه - فيمحوه من تلك الحالة ويثبته في التي نقله إليها. وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وعن عبد اللّه بن مسعود أنهما كانا يقولان في دعائهما : اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاوة فامحنا وأثبتنا في ديوان السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
قال القاضي أبو محمد : وهذا دعاء في غفران الذنوب وعلى جهة انجزع منها. أي اللهم إن كنا شقينا بمعصيتك وكتب علينا ذنوب وشقاوة بها فامحها عنا بالمغفرة، وفي لفظ عمر في بعض الروايات بعض من هذا، ولم يكن دعاؤهما البتة في تبديل سابق القضاء ولا يتأول عليهما ذلك.
وقيل : إن هذه الآية نزلت لأن قريشا لما سمعت قول اللّه تعالى : وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قال : ليس لمحمد في هذا الأمر قدرة ولا حظ، فنزلت يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ أي ربما أذن اللّه من ذلك فيما تكرهون بعد أن لم يكن يأذن.
وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال : معنى الآية «يمحو اللّه ما يشاء ويثبت» من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنه لا محو فيها.
قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو ما أحلناه أولا في الآية.
وحكي عن فرقة أنها قالت :«يمحو اللّه ما يشاء ويثبت» من كتاب حاشى أمر الكتاب الذي عنده الذي لا يغير منه شيئا. وقالت فرقة معناه : يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما أراد، ونحو هذه الأقوال التي هي سهلة المعارضة.