وَالَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَسَمٌ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ مِنَ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، أَيْ: وَاللَّهِ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْقَسَمِ قَبْلَهُ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْقَسَمِ قَسَمٌ، وَالْمَعْنَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ وَرَبِّكَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَسَمُ الْمَذْكُورُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا أَيْ: قَسَمًا وَاجِبًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَسَمِ مَا دَلَّ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ مِنَ السِّيَاقِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، تَذْيِيلٌ وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ فِي تَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ، بَلْ هَذَا أَبْلَغُ لِلْحَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ فِيهَا قَسَمٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الْقَسَمِ، وَلَا قَرِينَةٍ وَاضِحَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْقَسَمِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَطْفُهَا عَلَى الْقَسَمِ، وَالْحُكْمُ بِتَقْدِيرِ قَسَمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ دُونَ قَرِينَةٍ ظَاهِرَةٍ فِيهِ، زِيَادَةٌ عَلَى مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَا يَتَعَيَّنُ مِنْهُ أَنَّ فِي الْآيَةَ قَسَمًا ; لِأَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ التَّعْبِيرَ بِتَحِلَّةِ الْقَسَمِ عَنِ الْقِلَّةِ الشَّدِيدَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَسَمٌ أَصْلًا، يَقُولُونَ: مَا فَعَلْتُ كَذَا إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، يَعْنُونَ إِلَّا فِعْلًا قَلِيلًا جِدًّا قَدْرَ مَا يُحَلِّلُ بِهِ الْحَالِفُ قَسَمَهُ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ فِي وَصْفِ نَاقَتِهِ:
تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاصِقَةٌ | ذَوَابِلٌ مَسُّهُنَّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ |