الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ لَجَعَلَ الْحَجَّ عُمْرَةً، وَأَحَلَّ مِنْهَا، وَنَحَرَ الْهَدْيَ بَعْدَ الْإِحْلَالِ مِنْهَا. وَلَكِنَّ الْمَانِعَ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ عَدَمُ جَوَازِ النَّحْرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَالْحَلْقُ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْإِحْلَالُ دُونَهُ مُعَلَّقٌ عَلَى بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، كَمَا قَالَ: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [٢ ١٩٦]. وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ الثَّابِتِ عَنْهُ أَنَّ مَحِلَّهُ: مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ فِي مَوْضِعَيْنِ، عَلَى أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الْحَلْقِ.
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [٢ ١٩٦]. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [٢٢ ٢٨]، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ نَحْرِهَا تَقَرُّبًا لِلَّهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [٢٢ ٢٩]، وَمِنْ قَضَاءِ تَفَثِهِمُ: الْحَلْقُ، أَوِ التَّقْصِيرُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ وَأَمَرَ بِذَلِكَ "، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " مُسْتَوْفًى، وَلَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ، عَلَى النَّحْرِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ كُلَّ الْوَاقِعِ مِنْ ذَلِكَ فِي حَجَّتِهِ، أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ " الْحَجِّ " عَلَى أَنَّ كُلَّ هَدْيٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَجِّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّمَتُّعُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَنَّ وَقْتَ ذَبْحِهِ مُخَصَّصٌ بِأَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَيَّامِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [٢٢ ٢٧ - ٢٨] ; لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَذِّنْ فِيهِمْ بِالْحَجِّ، يَأْتُوكَ مُشَاةً وَرُكْبَانًا ; لِأَجْلِ أَنْ يَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ: أَيْ وَلِأَجْلِ أَنْ يَتَقَرَّبُوا بِدِمَاءِ الْأَنْعَامِ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَنْعَامَ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ، وَيُسَمَّى عَلَيْهَا اللَّهُ عِنْدَ تَذْكِيَتِهَا، أَنَّهَا أَظْهَرُ فِي الْهَدَايَا مِنَ الضَّحَايَا ; لِأَنَّ الضَّحَايَا لَا تَحْتَاجُ أَنْ يُؤْذَنَ فِيهَا لِلْمُضَحِّينَ، لِيَأْتُوا رِجَالًا وَرُكْبَانًا، وَيَذْبَحُوا ضَحَايَاهُمْ كَمَا تَرَى، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَنَّهُ مَا مَنَعَهُ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ إِلَّا سَوْقُ الْهَدْيِ، وَأَنَّ الْهَدْيَ لَوْ كَانَ يَجُوزُ ذَبْحُهُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ مِنَ الْعُمْرَةِ، لَأَحَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَذَبَحَ هَدْيَ التَّمَتُّعِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ مِنْهَا، أَوْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، كَمَا يَقُولُ مَنْ ذَكَرْنَا: أَنَّهُ جَائِزٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا مُوَضَّحًا بِأَسَانِيدِهِ، وَسَنُعِيدُ طَرَفًا مِنْهُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.


الصفحة التالية
Icon