هَلْ هُوَ دَمُ جُبْرَانٍ، أَوْ دَمُ نُسُكٍ كَالْأُضْحِيَّةِ؟ فَعَلَى أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَسُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ وَاضِحٌ، وَعَلَى أَنَّهُ دَمُ جُبْرَانٍ، فَقِيَاسُهُ عَلَى فِدْيَةِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ يَمْنَعُهُ أَمْرَانِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ صَحِيحٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ عَلَى وُجُوبِ الْهَدْيِ فِي الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ هَدْيُ التَّمَتُّعِ، وَالْعُلَمَاءُ إِنَّمَا أَوْجَبُوا الْفِدْيَةَ فِي الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ الْمَنْصُوصِ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى حُكْمٍ مُثْبَتٍ بِالْقِيَاسِ فِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ. فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَصٍّ، أَوِ اتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ، كَأَنْ تَقُولَ هُنَا: مَنْ لَبِسَ أَوْ تَطَيَّبَ فِي إِحْرَامِهِ، لَزِمَتْهُ فِدْيَةُ الْأَذَى، قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ الْآيَةَ [٢ ١٩٦]، بِجَامِعِ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ، ثُمَّ تَقُولُ: ثَبَتَ بِهَذَا الْقِيَاسِ أَنَّ فِي الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فِدْيَةً فَتَجْعَلُ الطِّيبَ وَاللِّبَاسَ الثَّابِتَ حُكْمُهَا بِالْقِيَاسِ أَصْلًا ثَانِيًا، فَتَقِيسُ عَلَيْهِمَا هَدْيَ التَّمَتُّعِ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ دَمُ جُبْرَانٍ، وَكَأَنْ تَقُولَ: يَحْرُمُ الرِّبَا فِي الذُّرَةِ، قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ بِجَامِعِ الِاقْتِيَاتِ، وَالِادِّخَارِ، أَوِ الْكَيْلِ مَثَلًا، ثُمَّ تَقُولُ: ثَبَتَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي الذُّرَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبُرِّ، فَتَجْعَلُ الذُّرَةَ أَصْلًا ثَانِيًا، فَتَقِيسُ عَلَيْهَا الْأُرْزَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَعَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَصِحُّ بِهِ الْقِيَاسُ، فَسُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ وَاضِحٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:
وَحُكْمُ الْأَصْلِ قَدْ يَكُونُ مُلْحَقَا | لِمَا مِنِ اعْتِبَارِ الْأَدْنَى حُقِّقَا |
وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قَائِلِينَ: إِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا، فَيَجِبُ الْهَدْيُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ ; لِأَنَّ اسْمَ التَّمَتُّعِ يَحْصُلُ بِهِ، وَالْهَدْيُ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِأَوَّلِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [٢ ١٨٧]، مَرْدُودٌ أَيْضًا.
أَمَّا كَوْنُ التَّمَتُّعِ يُوجَدُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَالْهَدْيُ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ وُجُودُهُ بِوُجُودِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا رَدَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ بِإِيضَاحٍ قَرِيبًا فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِأَوَّلِهِ يَعْنُونَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: