وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْهَدْيَ وَالْإِطْعَامَ يَخْتَصُّ بِهِمَا فُقَرَاءُ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، وَأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ مَكَانٌ دُونَ مَكَانٍ، مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الطَّعَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ ".
وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ، وَتَفْرِيقُهُ فِي الْحَرَمِ أَيْضًا، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ جَوَازَ الذَّبْحِ فِي الْحِلِّ، إِنْ كَانَ تَفْرِيقُ اللَّحْمِ فِي الْحَرَمِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْبُدْنَ يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا، وَإِشْعَارُهَا فَيُقَلِّدُهَا نَعْلَيْنِ. وَمَعْنَى إِشْعَارِهَا: هُوَ جَرْحُهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا، وَيُسْلَتُ الدَّمُ عَنْهَا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِشْعَارَ فِي صَفْحَةِ السَّنَامِ الْيُمْنَى، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ الْقَائِلِ: إِنَّهُ فِي الصَّفْحَةِ الْيُسْرَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْإِشْعَارَ الْمَذْكُورَ سُنَّةٌ لِثُبُوتِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ: بِالنَّهْيِ عَنْهُ، مُعَلِّلًا: بِأَنَّهُ مُثْلَةٌ وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ النَّخَعِيِّ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْوَارِدَةَ بِالْإِشْعَارِ تُخَصِّصُ عُمُومَ النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ أَنَّهُ مُثْلَةٌ، فَهُوَ جَرْحٌ لِمَصْلَحَةٍ: كَالْفَصْدِ وَالْخِتَانِ، وَالْحِجَامَةِ، وَالْكَيِّ، وَالْوَسْمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْهَدْيَ مِنَ الْغَنَمِ يُسَنُّ تَقْلِيدُهُ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخَالَفَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ الْجُمْهُورَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى غَنَمًا فَقَلَّدَهَا " وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا تُقَلَّدُ بِالنِّعَالِ لِضَعْفِهَا، وَإِنَّمَا تُقَلَّدُ بِنَحْوِ عُرَى الْقِرَبِ، وَلَا تُشْعَرُ الْغَنَمُ إِجْمَاعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ تَقْلِيدِ الْغَنَمِ، وَلَوْ بَلَغَهُ لَعَمِلَ بِهِ ; لِأَنَّهُ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِشْعَارُ الْبَقَرِ إِنْ كَانَ لَهُ سَنَامٌ لَا نَصَّ فِيهِ، وَقَاسَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إِشْعَارِ الْإِبِلِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ وَتَلْطِيخِ الْهَدْيِ بِالدَّمِ، هُوَ أَنْ يَعْلَمَ كُلُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهُ هَدْيٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ، فَإِذَا أُشْعِرَ وَقُلِّدَ تَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ، وَرُبَّمَا شَرَدَ فَيُعْرَفُ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيُرَدُّ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْبَقَرِ، فَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ: إِشْعَارُهُ إِنْ كَانَ لَهُ سَنَامٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْحِكْمَةُ فِي تَقْلِيدِهِ النَّعْلَيْنِ أَنَّ الْمُنْتَعِلَ عِنْدَهُمْ كَالرَّاكِبِ لِكَوْنِ النَّعْلِ تَقِي صَاحِبَهَا الْأَذَى مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالشَّوْكِ، وَالْقَذَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَأَنَّ الْمُهْدِيَ خَرَجَ لِلَّهِ عَنْ مَرْكُوبِهِ الْحَيَوَانِيِّ، وَغَيْرِ الْحَيَوَانِيِّ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ قَلَّدُوا الْبَقَرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ; حَيْثُ قَالَ: بَابُ فَتْلِ الْقَلَائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ حَفْصَةَ الْمُتَقَدِّمَ، وَفِيهِ قَالَ: " إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي ". الْحَدِيثَ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهْدِي مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِهِ "... الْحَدِيثَ، فَتَرَى الْبُخَارِيَّ قَالَ فِي التَّرْجَمَةِ هَذِهِ: بَابُ فَتْلِ الْقَلَائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ.


الصفحة التالية
Icon