ابْنُ الْقَصَّارِ: وَالدَّلِيلُ لِقَوْلِنَا هُوَ أَنَّ نَفْيَ وَلَدِهِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَاسْتِلْحَاقُ وَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ لِكَيْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَيُفَكِّرَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ أَوْ لَا؟ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْحَدَّ ثَلَاثَةً ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ، وَقَدْ جُعِلَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يُخْتَبَرُ فِيهَا حَالُ الْمُصَرَّاةِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا.
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَلَيْسَ اعْتِبَارُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْوِلَادَةِ وَالرِّضَاعِ، إِذْ لَا شَاهِدَ لَهُمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ شَاهِدًا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ مُدَّةِ الْمُصَرَّاةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْقَصَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لِلتَّحْدِيدِ بِثَلَاثَةٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَهِيَ: هَلْ يُنَزَّلُ السُّكُوتُ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ أَوْ لَا؟ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ»، بِقَوْلِهِ:
وَجَعْلُ مَنْ سَكَتَ مِثْلَ مَنْ أَقَرْ | فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ قَدِ اشْتُهِرَ |
فَالِاحْتِجَاجُ بِالسُّكُوتِيِّ نَمَى | تَفْرِيعُهُ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَا |
وَهُوَ بِفَقْدِ السُّخْطِ وَالضِّدِّ حَرِي | مَعَ مُضِيِّ مُهْلَةٍ لِلنَّظَرِ |
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَاصِمٍ فِي رَجَزِهِ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ:
وَحَاضِرٌ لِوَاهِبٍ مِنْ مَالِهِ | وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا رَأَى مِنْ حَالِهِ |
الْحُكْمُ مَنْعُهُ الْقِيَامَ بِانْقِضَا | مَجْلِسِهِ إِذْ صَمْتُهُ عَيْنُ الرِّضَى |
وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي مَسْأَلَةِ السُّكُوتِ عَنِ اللِّعَانِ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ زَمَنًا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ