كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَقَبْلَهُ وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لِأَنَّ الصِّيَامَ وَالْقِصَاصَ مِنْ أَشَقِّ التَّكَالِيفِ، وَكَذَا يَجِيءُ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ شَاقٌّ وَفِيمَا فِيهِ تَرْخِيصٌ أَوْ تَرْقِيَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَظَ ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَ فَإِنَّهُ مِنْ مَحَاسِنِ عِلْمِ الْبَيَانِ.
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ سَبَبُ النُّزُولِ فِيمَا قَالَ الْحَسَنُ: أَنَّ قَوْمًا، قِيلَ: الْيَهُودُ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ، قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَمَّا نَزَلَ. وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «١» قَالَ قَوْمٌ: فِي أَيِّ سَاعَةٍ نَدْعُو؟
فَنَزَلَ وَإِذا سَأَلَكَ وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ طَلَبَ تَكْبِيرِهِ وَشُكْرِهِ بَيَّنَ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ذِكْرِ مَنْ ذَكَرَهُ وَشُكْرِ مَنْ شَكَرَهُ، يَسْمَعُ نِدَاءَهُ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُ أو رغبته، تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ يَكُونَ وَلَا بُدَّ مَسْبُوقًا بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ.
وَالْكَافُ فِي: سَأَلَكَ، خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنْ فِي قَوْلِهِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَيْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُنْزِلَ عَلَيْكَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فَجَاءَ هَذَا الْخِطَابُ مُنَاسِبًا لِهَذَا الْمَحْذُوفِ. وَ: عِبَادِي، ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ:
إِمَّا الْيَهُودُ وَإِمَّا الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي السَّبَبِ، وَأَمَّا عِبَادِي. وَ: عَنِّي، فَالضَّمِيرُ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، لأنه سبق و: لتكبروا اللَّهَ، فَهُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَائِبٍ إِلَى مُتَكَلِّمٍ، وَ: عَنِّي، مُتَعَلِّقٌ بِسَأَلَكَ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا عَنْ ذَاتِهِ لِأَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ بِقَوْلِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ، وَالْقُرْبُ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قُرْبًا بِالْمَكَانِ، وَإِنَّمَا الْقُرْبُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى سَامِعًا لِدُعَائِهِ، مُسْرِعًا فِي إِنْجَاحِ طلب مَنْ سَأَلَهُ، فَمَثَّلَ حَالَةَ تَسْهِيلِهِ ذَلِكَ بِحَالَةِ مَنْ قَرُبَ مَكَانُهُ مِمَّنْ يَدْعُوهُ، فَإِنَّهُ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ يُجِيبُ دُعَاءَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا الْقُرْبِ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «٢» وَمَا
رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هُوَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْنَاقِ رَوَاحِلِكُمْ».
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ، جَوَابُ إِذَا، وَثَمَّ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَقُلْ لَهُمْ إِنِّي قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّرْطِ الْقُرْبُ، إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْقُرْبِ.
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ أُجِيبُ: إما صفة لقريب، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَرُوعِيَ الضَّمِيرُ فِي: فَإِنِّي، فَلِذَلِكَ جَاءَ أُجِيبُ، وَلَمْ يُرَاعَ الْخَبَرُ فَيَجِيءُ: يُجِيبُ، على طريقة

(١) سورة غافر: ٤٠/ ٦٠.
(٢) سورة ق: ٥٠/ ١٦.


الصفحة التالية
Icon