ذَلِكَ، لِأَنَّهُ خَصَّ فِيهِ مَرْيَمَ وَابْنَهَا عِيسَى دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمَسَّ لَنُفِيَ أَثَرُهُ، وَلَوْ نُفِيَ لَدَامَ الصُّرَاخُ وَالْبُكَاءُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا بُطْلَانَ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا
يُرْوَى فِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ مولولد يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا».
فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَطْمَعُ الشَّيْطَانُ فِي إِغْوَائِهِ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا مَعْصُومَيْنِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي صِفَتِهِمَا لقوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «١» وَاسْتِهْلَالُهُ صَارِخًا مِنْ مَسِّهِ، تَخْيِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِطَمَعِهِ فِيهِ كَأَنَّهُ يَمَسُّهُ وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: هَذَا مِمَّنْ أَغْوِيهِ، وَنَحْوُهُ مِنَ التَّخْيِيلِ قَوْلُ ابْنِ الرُّومِيِّ:
لِمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا | يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ |
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَصْلُ فَتَقَبَّلَهَا بِتَقَبُّلٍ حَسَنٍ، وَلَكِنْ قَبُولٍ مَحْمُولٌ عَلَى: قَبِلَهَا قَبُولًا، يُقَالُ: قَبِلَ الشَّيْءَ قبولا وَالْقِيَاسُ فِيهِ الضَّمُّ: كَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ بِالْفَتْحِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ ضَمَّ الْقَافِ، وَنَقَلَهَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فقال: قيلته قبولا وقبولا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ سَلَكَ بِهَا طَرِيقَ السُّعَدَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَكَفَّلَ بِتَرْبِيَتِهَا وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لَمْ يُعَذِّبْهَا سَاعَةً قَطُّ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ تَقَبَّلَ بِمَعْنَى اسْتَقْبَلَ، فَيَكُونُ تَفَعَّلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، أَيِ: اسْتَقْبَلَهَا رَبُّهَا، نَحْوَ: تَعَجَّلْتُ الشَّيْءَ فَاسْتَعْجَلْتُهُ، وَتَقَصَّيْتُ الشَّيْءَ وَاسْتَقْصَيْتُهُ، مِنْ قَوْلِهِمُ: اسْتَقْبَلَ الْأَمْرَ أَيْ أَخَذَهُ بِأَوَّلِهِ. قَالَ:
وَخَيْرُ الْأَمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ | وَلَيْسَ بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا |
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٧٥.