لَا يَقَعُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَعْنَاهَا: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ:
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ «١» أَيْ: يُضَيِّقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يُقَالُ: قَدَرَ وَقَدَّرَ، وَقَتَرَ وَقَتَّرَ أَيْ: ضَيَّقَ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ أَيْ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَدَرِ وَهُوَ الْحُكْمُ دُونَ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: هُوَ مِنَ التَّقْدِيرِ لَيْسَ مِنَ الْقُدْرَةِ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدَّرَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ يُقَدِّرُهُ قَدَرًا، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ اللَّوَى بِرَوَاجِعٍ | لَنَا أَبَدًا مَا أَبْرَمَ «٢» السَّلْمَ النَّضِرُ |
وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزمان الذي مضى | تباركت ما تقدر يقع وذلك «٣» الشُّكْرِ |
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ لِأَهْلِهِ أَنْ يَحْرِقُوهُ إذا مات، ثم قال: فو الله لَئِنْ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ... الْحَدِيثَ. كَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَطُولُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَاهُنَا مَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ النَّاظِرُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ فَصِيحَةٌ أَيْ: كَانَ مَا كَانَ مِنِ الْتِقَامِ الْحُوتِ لَهُ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَكَانَ نِدَاؤُهُ: هُوَ قَوْلُهُ: أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ:
بِأَنْ لَا إِلَهَ إلّا أنت... إِلَخْ، وَمَعْنَى سُبْحَانَكَ: تَنْزِيهًا لَكَ مِنْ أَنْ يُعْجِزَكَ شَيْءٌ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هَذَا الْقَوْلُ مِنْ يُونُسَ اعْتِرَافٌ بِذَنْبِهِ وَتَوْبَةٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ، قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَالَ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ دُعَاءَهُ الَّذِي دَعَانَا بِهِ فِي ضِمْنِ اعْتِرَافِهِ بِالذَّنْبِ عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ بِإِخْرَاجِنَا لَهُ مَنْ بَطْنِ الْحُوتِ حَتَّى قَذَفَهُ إِلَى السَّاحِلِ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: نُخَلِّصُهُمْ مَنْ هَمِّهِمْ بِمَا سَبَقَ مِنْ علمهم، وَمَا أَعْدَدْنَاهُ لَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهَذَا هُوَ معنى الآية الأخرى، وهي قَوْلُهُ: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ- لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «٤». قَرَأَ الْجُمْهُورُ نُنَجِّي بِنُونَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «نُجِّي» بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ وَتَسْكِينُ الْيَاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَإِضْمَارُ الْمَصْدَرِ، وَكَذَلِكَ نُجِّي النجاء الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا تَقُولُ ضَرَبَ زَيْدًا، أَي: ضَرَبَ
(٢). في تفسير القرطبي (١١/ ٣٣٢) : أورق. [.....]
(٣). في تفسير القرطبي (١١/ ٣٣٢) : ولك.
(٤). الصافات: ١٤٣- ١٤٤.