أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ أَيْضًا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِمَنْ فَعَلَ فِعْلًا لَا يَجُوزُ، أَمَّا هَذَا الْإِصْلَاحُ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الطَّاعَاتِ فَكَيْفَ بِهِ هَذَا الْكَلَامُ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَنْبِيهِ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى كَأَنَّهُ قَالَ أَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ ثُمَّ أَرْحَمُ الْمُذْنِبَ فَبِأَنْ أُوصِلَ رَحْمَتِي وَثَوَابِي إِلَيْكَ مَعَ أَنَّكَ تَحَمَّلْتَ الْمِحَنَ الْكَثِيرَةَ فِي إِصْلَاحِ هَذَا الْمُهِمِّ كَانَ أَوْلَى، وَثَانِيهَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْمُوصِيَ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَى الْجَنَفِ وَالْإِثْمِ مَتَى أُصْلِحَتْ وَصِيَّتُهُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ بِفَضْلِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُصْلِحَ رُبَّمَا احْتَاجَ فِي إِيتَاءِ الْإِصْلَاحِ إِلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهَا فَإِذَا عَلِمَ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّ غَرَضَهُ لَيْسَ إِلَّا الْإِصْلَاحَ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخِذُهُ بِهَا لأنه غفور رحيم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)
الحكم السادس
اعْلَمْ أَنَّ الصِّيَامَ مَصْدَرُ صَامَ كَالْقِيَامِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّرْكُ لَهُ، وَمِنْهُ قِيلَ/ لِلصَّمْتِ: صَوْمٌ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الْكَلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [مَرْيَمَ: ٢٦] وَصَوْمُ النَّهَارِ إِذَا اعْتَدَلَ وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَدَعْهَا وَسَلِّ الهم عنها بحسرة | ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا |
حَتَّى إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ
وَصَامَتِ الرِّيحُ إِذَا رَكَدَتْ، وَصَامَ الْفَرَسُ إِذَا قَامَ عَلَى غَيْرِ اعْتِلَافٍ وَقَالَ النَّابِغَةُ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ | تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا |
وَالْبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ
وَمَصَامُ الشَّمْسِ حَيْثُ تَسْتَوِي فِي مُنْتَصَفِ النَّهَارِ، وَكَذَلِكَ مَصَامُ النَّجْمِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في فصامها | بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا التَّشْبِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى أَصْلِ إِيجَابِ الصَّوْمِ، يَعْنِي هَذِهِ الْعِبَادَةَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً وَاجِبَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى عَهْدِكُمْ، مَا أَخْلَى اللَّهُ أُمَّةً مِنْ إِيجَابِهَا عَلَيْهِمْ لَا يَفْرِضُهَا عَلَيْكُمْ وَحْدَكُمْ وَفَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ شَاقَّةٌ، وَالشَّيْءُ الشَّاقُّ إِذَا عَمَّ سَهُلَ تحمله.