الثَّالِثُ: إجْمَالُ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ خُصُوصَ الْقَرَابَةِ وَمِقْدَارَ النَّصِيبِ، وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ تَوْطِئَةً لِلْحُكْمِ وَإِبْطَالًا لِذَلِكَ الرَّأْيِ الْفَاسِدِ، حَتَّى وَقَعَ الْبَيَانُ الشَّافِي بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سِيرَةِ اللَّهِ وَسُنَّتِهِ فِي إبْطَالِ آرَائِهِمْ وَسُنَّتِهِمْ.
[مَسْأَلَةٌ قِسْمَةِ الْمَتْرُوكِ عَلَى الْفَرَائِضِ إذَا كَانَ فِيهِ تَغْيِيرٌ عَنْ حَالِهِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: ٧] كَانَ أَشْيَاخُنَا قَدْ اخْتَلَفُوا عَنْ مَالِكٍ فِي قِسْمَةِ الْمَتْرُوكِ عَلَى الْفَرَائِضِ إذَا كَانَ فِيهِ تَغْيِيرٌ عَنْ حَالِهِ كَالْحَمَّامِ وَبَدْءِ الزَّيْتُونِ وَالدَّارِ الَّتِي تَبْطُلُ مَنَافِعُهَا بِإِبْرَازِ أَقَلِّ السِّهَامِ مِنْهَا؛ فَكَانَ ابْنُ كِنَانَةَ يَرَى ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: ٧] وَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَرْوِي عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُضَارَّةِ؛ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُضَارَّةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ [النساء: ١٢] وَأَكَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِلْقِسْمَةِ؛ وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ فِي التَّرِكَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: ٧] وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا؛ فَأَمَّا إبْرَازُ ذَلِكَ النَّصِيبِ فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُولُ: قَدْ وَجَبَ لِي نَصِيبٌ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَمَكِّنُونِي مِنْهُ. فَيَقُولُ لَهُ شَرِيكُهُ: أَمَّا تَمْكِينُكَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَلَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ضَرَرٍ بَيْنِي وَبَيْنِكَ مِنْ إفْسَادِ الْمَالِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ وَتَنْقِيصِ الْقِيمَةِ، فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ.