كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
يُخْبِرُهُمَا يُوسُفُ عليه السلام أنهما مهما رأيا في منامهما مِنْ حُلْمٍ، فَإِنَّهُ عَارِفٌ بِتَفْسِيرِهِ، وَيُخْبِرُهُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ، يَقُولُ: ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ في يومكما ﴿إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا﴾، وَكَذَا قال السدي، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّايَ، لِأَنِّي اجْتَنَبْتُ مِلَّةَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا فِي الْمَعَادِ، ﴿واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ الآية، ويقول: هَجَرْتُ طَرِيقَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَسَلَكْتُ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهَكَذَا يَكُونُ حَالُ مِنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْهُدَى وَاتَّبَعَ طريق المرسلين وأعرض عن طريق الضالين، فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلم، وَيَجْعَلُهُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فِي الْخَيْرِ وَدَاعِيًا إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، ﴿مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ﴾، هَذَا التَّوْحِيدُ وَهُوَ الإقرار بأنه لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ﴿مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا﴾ أَيْ أَوْحَاهُ إِلَيْنَا وَأَمَرَنَا بِهِ، ﴿وَعَلَى النَّاسِ﴾ إِذْ جَعَلَنَا دُعَاةً لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ أَيْ لَا يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، بَلْ ﴿بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار﴾.
- ٣٩ - يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
- ٤٠ - مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْبَلَ عَلَى الْفَتَيَيْنِ بِالْمُخَاطَبَةِ وَالدُّعَاءِ لَهُمَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَوْثَانِ الَّتِي يَعْبُدُهَا قَوْمُهُمَا، فَقَالَ: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ أَيْ الذي ذل كل شيء لعز جَلَالِهِ وَعَظَمَةِ سُلْطَانِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمَا أَنَّ التي يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هو تسمية مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، تَلَقَّاهَا خَلَفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ مُسْتَنَدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ أَيْ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْحُكْمَ وَالتَّصَرُّفَ وَالْمَشِيئَةَ وَالْمُلْكَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَقَدْ أمر عبادة قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه، ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ، هُوَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وأَنْزَلَ بِهِ الْحُجَّةَ وَالْبُرْهَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ، ﴿وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ جعل سؤالهما له سبباً
إِلَى دُعَائِهِمَا إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ، لِمَا رَأَى فِي سَجِيَّتِهِمَا مِنْ قَبُولِ الْخَيْرِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالْإِنْصَاتِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَرَغَ مِنْ دَعْوَتِهِمَا شَرَعَ فِي تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُمَا مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ السؤال فقال:
- ٤١ - يا صاحبي السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَأْسِهِ قُضِيَ الأمر -[٢٥١]- الذي فيه تستفتيان
يقول لهما: ﴿يا صاحبي السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً﴾ وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يعنيه لِئَلَّا يَحْزَنَ ذَاكَ، وَلِهَذَا أَبْهَمَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ﴾ وهو الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ خُبْزًا، ثم أعلمها أَنَّ هَذَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت. قال الثوري: لَمَّا قَالَا مَا قَالَا، وَأَخْبَرَهُمَا قَالَا: مَا رَأَيْنَا شَيْئًا، فَقَالَ: ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾.


الصفحة التالية
Icon