" صفحة رقم ١١٤ "
وسفاهة حلمه، فإنه لو عبد حيّاً مميزاً لكانت له شبهة ما. وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحِسّ إذ قال له : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فذلك حجة محسوسة، ثم أتبعها بقوله : ولا يغني عنك شيئاً، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله : يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً ( ( مريم : ٤٣ )، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان، ثم ألقى إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله :( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ( ( مريم : ٤٥ )، أي إن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني، فإن كنتَ لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإنّ أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها. وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه :
زعم المنجّم والطّبيب كلاهمالا تحشر الأجسام قلت : إليكماإن صحّ قولكما فلست بخاسرأو صح قولي فالخسار عليكماقال : وفي النداء بقوله :( يا أبت أربع مرات تكريرٌ اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب. ونَظَّرَ ذلك بتكرير لقمان قوله : يا بني ( ( لقمان : ١٣ ١٦ ) ثلاث مرات، قال : بخلاف قول نوح لابنه :( يا بني اركب معنا ( ( هود : ٤٢ ) مرة واحدة دون تكرير لأنّ ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز ). انتهى كلامه بما يقارب لفظه.
وأقول : الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته، كما أشار إليه صاحب ( الكشاف )، ومكنى به عن نفي العلّة المسؤول عنها بقوله :( لم تعبد، فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام.


الصفحة التالية
Icon