" صفحة رقم ٢٤٨ "
وجعل لهم من بعد هذا العالم الزائل عالَماً خالداً يكون فيه وجود الأصناف محوطاً بما تستحقه كمالاتُها وأضدادُها من حُسْن أو سوء، ولو لم يجعل الله العالمَ الأبدي لذهب صلاح الصالحين باطلاً أجهدوا فيه أنفسهم وأضاعوا في تحصيله جمّاً غفيراً من لذائذهم الزائلة دون مقابل، ولعاد فساد المفسدين غُنما أرضَوْا به أهواءَهم ونالوا به مشتهاهم فذهب ما جَرُّوه على الناس من أرزاء باطلاً، فلا جرم لو لم يكن الجزاء الأبدي لعاد خلق الأرض باطلاً ولفاز الغويّ بغوايته.
فإذا استقرت هذه المقدمة تعين أن إنكار البعث والجزاء يلزمه أن يكون منكرُه قائلاً بأن خلق السماء والأرض وما بينهما شيء من الباطل، وقد دلّت الدلائل الأخرى أن لا يكون في خلق ذلك شيء من الباطل بقياس الخفي على الظاهر، فبطل ما يفضي إلى القول بأن في خلق بعض ما ذكر شيء من الباطل.
والمشركون وإن لم يصدر منهم ذلك ولا اعتقدوه لكنهم آيلون إلى لزومه لهم بطريق دلالة الالتزام لأن من أنكر البعث والجزاء فقد تقلد أن ما هو جارٍ في أحوال الناس باطل، والناس من خلق الله فباطلهم إذا لم يؤاخِذهم خالقهم عليه يكون مما أقرّه خالقهم، فيكون في خلق السماء والأرض وما بينهما شيء من الباطل، فتنتقض كلية قوله :( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً، ( وهو ما ألزمهم إياه قوله تعالى :( ذالِكَ ظنُّ الذين كفروا. ( والإِشارة إلى القضية المنفية لا إلى نفيها، أي خَلق المذكورات باطلاً هو ظن الذين كفروا، أي اعتقادهم. وأُطلق الظن على العلم لأن ظنهم علم مخالف للواقع فهو باسم الظن أجدر لأن إطلاق الظن يقع عليه أنواع من العلم المُشْبِه والباطل. وفي هذه الآية دليل على أن لازم القول يعتبر قولاً، وأن لازم المذهب مذهب وهو الذي نحاه فقهاء المالكية في موجبات الردة من أقوال وأفعال.
وفرع على هذا الاستدلال وعدممِ جري المشركين على مقتضاه قوله :( فويلٌ للذين كفروا مِنَ النَّارِ ( أي نار جهنم. وعُبر عنهم بالموصول لما تشير إليه الصلة من أنهم استحقوا العقاب على سوء اعتقادهم وسوء أعمالهم، وأن ذلك أيضاً من آثار انتفاء الباطل عن خلق السماوات والأرض وما بينهما، لأنهم كانوا على باطل في إعراضهم عن الاستدلال بنظام السماوات والأرض، وفي ارتكابهم مفاسد عوائد


الصفحة التالية
Icon