" صفحة رقم ٢٥٨ "
انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض، إذ كان إعجابُ كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشياً في الجاهلية كما ترى بقيته في شعر الفرزدق وجرير، وكانوا يحقرون بعض القبائل مثل بَاهلة، وضُبيعة، وبني عُكل.
سئل أعرابي : أتحب أن تدخل الجنة وأنت باهلي فأطرق حينا ثم قال : على شرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلى. فكان ذلك يجرّ إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام.
فعن أبي داود أنه روى في كتابه ( المراسيل ) عن الزهري قال أمر رسول الله ( ﷺ ) بني بياضة ( من الأنصار ) أن يزوجوا أبا هند ( مولَى بني بياضة قيل اسمه يَسار ) امرأةً منهم فقالوا : تزوج بناتنا موالينَا، فأنزل الله تعالى :( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا ( الآية. وروي غير ذلك في سبب نزولها.
ونُودوا بعنوان ) الناس ( دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صُدّر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل :( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ).
فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغترّ بأن غالِب الخطاب ب ) يا أيها الناس ( إنما كان في المكي.
والمراد بالذَكَر والأنثى : آدم وحواء أبَوَا البشر، بقرينة قوله ) وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ).