" صفحة رقم ٢٦٠ "
فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاماً محكماً لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر. وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم.
والمقصود : أنكم حرَّفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بِسبب تناكر وتطاحن وعدوان.
ألا ترى إلى قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :
مهلاً بني عمنا مهلاً موالِينا
لا تَنْبُشوا بيننا ما كان مدفوناً
لا تطمَعوا أن تُهِينُونا ونكرمَكُم
وأن نَكُف الأذى عنكم وتؤذونا
وقول العُقيلي وحاربه بنو عمه فقَتل منهم :
ونَبكي حين نقتلكم عليكم
ونَقتلكم كأنَّا لا نبالي
وقول الشَّمَيْذَرِ الحارثي :
وقد ساءنِي ما جرَّت الحربُ بيننا
بني عَمّنا لو كان أمراً مُدانيا
وأقوالهم في هذا لا تحصر عدا ما دون ذلك من التفاخر والتطاول والسخرية واللمز والنبز وسوء الظن والغيبة مما سبق ذكره.
وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى :( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ( فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة.
ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يَغِين على نُورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتَجسِس والغيبة، ذكَّرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الإعتقاد ليكون ذلك التذكير عوناً على تبصرهم في حالهم،