فالعليم الخبير لا يقع منه أن يستفهم عن شيء. فيكون التحديد بالألف لا مفهوم له، بل الغرض منه التكثير، وإن أقل عدد تفضله هو ألف شهر. ثم إن درجات فضلها على هذا العدد غير محصورة. فإذا قلت : إخفاء الصدقة خير من إظهارها، لم تعين درجة الأفضلية، وهي درجات فوق درجات وقد جاء في الكتاب في واقعة واحدة، هي واقعة بدر أن الله أمد المؤمنين بألف من الملائكة، أو بثلاثة آلاف، أو بخمسة آلاف، كما تراه في الأنفال وآل عمران ؛ فالعدد هناك لا مفهوم له، كما هو ظاهر. فهي ليلة خير من الدهر إن شاء الله، ثم استأنف لبيان بعض مزاياها فقال :﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ﴾ يخبر جل شأنه أن أول عهد للنبي - ﷺ - بشهود الملائكة كان في تلك الليلة، تنزلت من عالمها الروحانيّ الذي لا يحدهُ حد ولا يحيط به مقدار، حتى تمثلت لبصره - ﷺ -، والروح هو الذي يتمثل له مبلغاً للوحي، وهو الذي سمّي في القرآن بجبريل. وإنما تظهر الملائكة والروح ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ أي : إنما تتجلى الملائكة على النفس الكاملة، بعد أن هيأها الله لقبول تجليها. وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس كما هو معلوم، فذلك فضل الله يختص به من يشاء. واختصاصه هو إذنه ومشيئته. ثم إن هذه الإذن مبدؤه الأوامر والأحكام ؛ لأن الله يجلي الملائكة على النفوس، لإيحاء ما يريده منها. ولهذا قال :﴿ مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾ أي : أن الله يظهر الملائكة والروح لرسله عند كل أمر يريد إبلاغه إلى عباده، فيكون الإذن مبتدئاً من الأمر على هذا المعنى. والأمر ها هنا هو الأمر في قوله :
﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ [ الدخان : ٤ - ٥ ]، فالكلام في الرسالة والأوامر والأحكام، لا في شيء سواها ؛ ولهذا قال بعضهم : إن من ها هنا بمعنى الباء، أي : بكل أمر. ولا حاجة إليه لما قلنا. وإنما عبر بالمضارع في قوله :
﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ وقوله :﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ مع أن المعنى ماض، لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن لوجهين :
الأول : لاستحضار الماضي لعظمته على نحو ما في قوله :﴿ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ]، فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويراً.
والثاني : لأن مبدأ النزول كان فيها، ولكن بقية الكتاب وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام كان فيما بعد، فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان حتى يكمل الدين. وقوله تعالى :﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ أي : أنها كانت ليلة سالمة من كل شر وأذى. والإخبار عنها بالسلام نفسه - وهو الأمن والسلامة - للمبالغة في أنهُ لم يَشُبْها كدر، بل فرَّج الله فيها عن نبيه كل كربة وفتح له فيها سبل الهداية، فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها الأيامَ والشهور الطوال.
تنبيهات :