رمضان كل عام، هي ليلة فيها مزية على غيرها، بفضل اختصت به دون غيرها. وهذا هو السرّ في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه. أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركاً وتيمناً وشكراً لله تعالى على تلك النعمة والهداية، فالقائم في ليالي العشر الأخير، أو في رمضان، مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة ؛ لأنها منه قطعاً. وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسماً للعبادة ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخَر في تذكاراتهم وجعلها أعياداً، تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو، مما ينافي حكمة ذكراها ؛ فتأمّل الفرق واحمد الله على اتباع الحق.
الثالث : قال الإمام : ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان، وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر، فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة، وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك، ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم - ﷺ -، ومثل ذلك لم يرد ؛ لاضطراب الروايات، وضعف أغلبها، وكذبِ الكثير منها. ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد. ومثل ذلك يقال في بيت العِزّة، ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة، فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين، لعدم تواتر خبره عن النبي - ﷺ -، ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه، وإلا كنا من الذين ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ] نعوذ بالله. وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة، مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ويُعدّ من عقائد الدين، وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل، فاحذر أن تقع فيها مثلهم، انتهى كلامه رحمه الله تعالى. (١)
الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد - ﷺ - ليلة ذات الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعاً. العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر؟ ﴾.. ﴿ ليلة القدر خير من ألف شهر ﴾..
والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير. بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود. نور الله المشرق في قرآنه :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى :﴿ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من أكل أمر ﴾.. ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقاً مع نور