والعقول.. فإننا نرى أمراً عظيماً حقاً. وندرك طرفاً من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة :﴿ وما أدراك ما ليلة القدر؟ ﴾..
لقد فرق فيها من كل أمر حكيم. وقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين. وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد. أقدار أمم ودول وشعوب. بل أكثر وأعظم.. أقدار حقائق وأوضاع وقلوب!
ولقد تغفل البشرية لجهالتها ونكد طالعها عن قدر ليلة القدر. وعن حقيقة ذلك الحدث، وعظمة هذا الأمر. وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء الله عليها، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع الذي وهبها إياه الإسلام. ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة. فهي شقية، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش!
لقد أنطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى. وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب. فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين..
ونحن المؤمنين مأمورون أن لا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى؛ وقد جعل لنا نبينا - ﷺ - سبيلاً هيناً ليناً لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبداً، موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها. وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام، ومن تحريها والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان.. في الصحيحين :« تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان » وفي الصحيحين كذلك :« من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه »
والإسلام ليس شكليات ظاهرية. ومن ثم قال رسول الله - ﷺ - في القيام في هذه الليلة أن يكون « إيماناً واحتساباً ».. وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة « إيماناً » وليكون تجرداً لله وخلوصاً « واحتساباً ».. ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام. ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن.
والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير.
وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك. وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة، وعن


الصفحة التالية
Icon